قيل: ودخل الفرزدق على سكينة بنت الحسين، فقالت له: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنُّبُهُ عزيزٌ ... عليّ ومن زيارته لِمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال: أما والله لئن تركتني لأسمعنك ما هو أحسن منه، فقالت: اخرجوه عني، ثم عاد من الغد فقالت: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
يا بيت عاتكةَ الذي أتعزّل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميَل
فقال: أما والله لئن تركتني لأسمعنك أحسن منه، فقالت: اخرجوه عني، ثم عاد من الغد وعندها جوارٍ كالتماثيل، فأخذت جارية منهن بقلبه، فقالت سكينة: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
إن العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا
فقال: يا بنت رسول الله إن لي حقاً بإقبالي عليك من مكة ولا أزال تدعيني أُسمعك شعري ولا تزيديني على التكذيب مع أني لأخاف لما بي أني لا أبرح ميتاً ولي حاجة، قالت: فما هي؟ قال: إن أنا مت تأمرين بتكفيني في ثياب هذه، وأشار إلى الجارية، فقالت: هي لك، وضمت إليها جائزة وكسوة.
وعن أبي الزناد قال: اجتمع جرير والفرزدق وكثيّر ونصيب في منزل سكينة بنت الحسين، فخرجت جارية ومعها قرطاس وقالت: أيكم الفرزدق؟ فقال: ها أنا ذا، قالت: أنت الذي يقول:
أبيت أمنّي النفس أن سوف نلتقي ... وهل هو مقدور لنفسي لقاؤها
فإن ألقها أو يجمع الدهر بيننا ... ففيها شفاء النفس منها وداؤها
قال: نعم، قالت: قولك أحسن من منظرك! وأنت القائل:
ودّعنني بإشارة وتحيةٍ ... وتكرنني بين الديار قتيلا
لم أستطع رد الجواب عليهم ... عند الوداع وما شفين عليلا
لو كنت أملكهم إذاً لم يبرحوا ... حتى أودّع قلبي المخبولا
قال: نعم، قالت: أحسنت أحسن الله إليك! وأنت القائل:
هما دلّتاني من ثمانين قامةً ... كما انقضّ بازٌ أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض نادتا: ... أحيٌّ فيرجى أم قتيل نحاذره
فقلت: ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا ... وولّيتُ في أعجاز ليلٍ أُبادره
أحاذر بوّابين قد وكلا بها ... وأحمر من ساجٍ تبصّ مسامره
فأصبحت في القوم القعود وأصبحت ... مغلقةً دوني عليها دساكره
قال: نعم، قالت: سوءة لك! قضيت حاجتك فأفشيت عليها وعلى نفسك، فضرب بيده على جبهته وقال: نعم فسوءة لي! ثم دخلت وخرجت وقالت: أيكم جرير؟ فقال: ها أنا ذا، قالت: أنت القائل:
رُزقنا به الصيد الغزير ولم نكن ... كمن نبله محرومةٌ وحبائله
فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات حيٌّ بالعقيق نواصله
قال: نعم، قالت: أحسن الله إليك! وأنت القائل:
كأن عيون المجتلين تعرّضت ... وشمساً تجلّى يوم دجنٍ سحابها
إذا ذُكرت للقلب كاد لذكرها ... يطير إليها واعتراه عذابها
قال: نعم، قالت: أحسنت! وأنت القائل:
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كلَّ مرام
طرقتك صائدةُ القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
لو كان عهدك كالذي حدثتني ... لوصلت ذاك فكان غير ذمام
تجري السّواك على أغرّ كأنه ... بردٌ تحدّر من متون غمام
قال: نعم، قالت: سوءة لك! جعلتها صائدة القلوب حتى إذا أناخت ببابك جعلت دونها حجاباً، ألا قلت:
طرقتك صائدة القلوب فمرحباً ... نفسي فداؤكِ فادخلي بسلام
قال: نعم فسوءة لي! ودخلت وخرجت وقالت: أيكم كثيّر؟ فقال: ها أنا ذا، فقالت: أنت القائل:
وأعجبني يا عزّ مكن خلائقٌ ... حسانٌ إذا عُدّ الخلائق أربع
دُنوُّكِ حتى يطمع الصبُّ في الصِّبا ... وقطعك أسباب الصبا حين تقطع