ثم مضيت فوالله ما انصرفت حتى ورد على المنصور الخبر بانتقاض أمر الموصل وانتشار الأكراد بها. فقال المنصور: ويحكم من لها! وكان المسيب بن زهير عند المنصور وكان صديقاً لخالد فقال: عندي والله من يكفيكه وأنا أعلم أنك ستلقاني بما أكره ولكني لا أدع على حال نصحك، فقال المنصور: قل فلست أردّ عليك. قال: يا أمير المؤمنين ما ترميها بمثل خالد. فقال المنصور: ويحك وتراه يصلح لنا بعد ما أتيناه إليه؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين وأنا زعيمه بذلك والضامن عليه. فتبسم المنصور وقال: صدقت والله ما لها غيره، فليحضر غداً. فأُحضر فصفح له عن الثلاث المائة الألف الدرهم الباقية عليه وعقد له.
قال يحيى: فنمرّ والله بالزاجر واللواء بين يدي، فلما رآني قال: أنا ها هنا أنتظرك منذ غدوة! قال: فتبسمت إليه فقال: امض. فمضى معي ودفعت إليه الخمسة الآلاف الدرهم.
[مساوئ الفأل]
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: حضرت مجلس المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين ألا أحدثك عن الفضل بن يحيى؟ قال: بلى. فقلت: دخلت دار الرشيد وإذا الفضل بن يحيى وإسماعيل بن صبيح وعبد الملك بن صالح في بعض تلك الأروقة يتحدثون، فلما بصر بي الفضل أومأ إلي وقال: يا إسحاق انتظرناك منذ الغداة لتساعد على ما نحن فيه من المذاكرة! فقلت: يا سيدي أنا السكيت إذا أجريت الجياد وفاز السابق والمصلّي. فقال: هيهات عندها مدحت نفسك ولما تكذّب.
فلما فرغ عبد الملك من حديثه قال الفضل: إن لقسٍّ حديثاً سمعته من الخليل بن أحمد فهل عند واحد منكم له ذكر؟ فسكت القوم. فقلت: يا سيدي ما نعرف له حديثاً إلا حديث خطبته بعكاظ. قال: ذاك شيء قد فهمته العامة واختبرته الخاصة. ثم أطرق ساعة. فقلنا: إن رأيت أن تحدثنا. فقال: حدثني الخليل بن أحمد أن قيصر ملك الروم بعث إلى قس بن ساعدة أسقف نجران وكان حكيماً طبيباً بليغاً في منطقه، فلما دخل عليه ومثل بين يديه حمد الله وأثنى عليه، فأمره بالجلوس فجلس، فرحب به وأدنى مجلسه وقال: ما زلت مشتاقاً إليك معما أحببت من مناظرتك في الطب. فكان أول ما سأله عن الشراب لعجبه به، فقال: أي الأشربة أفضل عاقبة في البدن؟ قال: ما صفا في العين واشتد على اللسان وطابت رائحته في الأنف من شراب الكرم. قال: فما تقول في مطبوخه؟ قال: مرعىً ولا كالسعدان. قال: فما تقول في نبيذ الزبيب؟ قال: ميت أحيي وفيه بعض المتعة وما يكاد يقوى شيء بعد الموت. قال: فما تقول في نبيذ العسل؟ قال: نِعم شراب الشيخ للابردة والمعدة الفاسدة. قال: فما تقول في أنبذة التمر؟ قال: أوساخ يطيب مذاقها في اللهوات وتسوء عاقبتها في البدن وتولّد الأرواح في البطن لرقتها. قال: فمن أي شيء يكون الثمل الذي يذهب الغم ويطيب النفس؟ قال: زعموا أن العقل تصعده سورة الشراب إلى الدماغ الذي هو أصله بقوة الروح الذي جُعل فيه، فإذا صعدت السورة إلى الدماغ الذي هو أصله فاحتوت عليه حتى تغشاه حجب العقل عن منافعه فاحتجب البصر بغير عمى والسمع بغير صمم واللسان بغير خرس، والدليل على ذلك أن السكران لا يرى في نومه شيئاً ولا تصيبه جنابة فلا يزال العقل كذلك محتجباً حتى تفكه الطبيعة من إسار السكر إما بقوة فيعجل وإما بضعف فيبطيء. قال: فمن أي شيء الخمار من بعد صحو السكران؟ قال: من إعياء الطبيعة عن مجاهدة السورة في افتكاك العقل وتخلّصه حتى يردها النوم إلى هدوء وما أشبهه. قال: الصرف أفضل أم الممزوج؟ قال: الصرف سلطان جائر والجائر مستفسد مذموم والممزوج سلطان عادل والعادل مستصلح محمود. قال: فصف لي الأطعمة. قال: الأطعمة كثيرة مختلفة وجملة ما آمرك به الإمساك عن غاية الإكثار فإن ذلك من أفضل ما بلوناه من الأدوية ورأس ما نأمر به من الحمية.