قال له: عمن حملت الحكمة؟ قال: عن عدة من الفلاسفة. قال: فما أفضل الحكمة؟ قال: معرفة المرء بقدره. قال: فما تقول في الحلم؟ قال: حلم الإنسان ماء وجهه. قال: فما تقول في المال وفضله؟ قال: أفضل المال ما أعطي منه الحق. قال: فما أفضل العطية؟ قال: أن يعطى قبل السؤال. قال: فأخبرني عما بلوت من الزمان وتصرّفه ورأيت من أخلاق أهله. قال: بلونا الزمان فوجدناه صاحباً ولا يعتب من عاتبه، ووجدنا الإنسان صورة من صور الحيوان يتفاضلون بالعقول، ووجدنا الأحساب ليست بالآباء والأمهات ولكنها هي أخلاق محمودة، وفي ذلك يقول، أو قال أقول:
لقد حلبت الزمان أشطره ... ثم محضت الصريح من حلب
فلم أر الفضل والمعال في ... قول الفتى إنني من العرب
حتى نرى سامياً إلى خلقٍ ... يذود محموده عن النسب
ما ينفع المرء في فكاهته ... من عقل جدٍّ مضى وعقل أب
ما المرء إلا ابن نفسه فبها ... يعرف عند التحصيل للنوب
حتى إذ المرء غال مهجته ... ألفيته تربةً من الترب
ووجدنا أبلغ العظات النظر إلى محل الأموات، وأحمد البلاغة الصمت، ووجدنا لأهل الحزم حذاراً شديداً وبذلك نجوٌ من المكروه، والكرم حسن الاصطبار، والعز سرعة الانتصار، والتجربة طول الاعتبار، قال: خبرني هل نظرت في النجوم؟ قال: ما نظرت فيها إلا فيما أردت به الهداية ولم أنظر فيما أردت به الكهانة، وقد قلت في النجوم:
علم النجوم على العقول وبال ... وطلاب شيءٍ لا ينال ضلال
ماذا طلابك علم شيءٍ أُغلقت ... من دونه الأفلاك ليس يُنال
هيهات ما أحدٌ بغامض قدره ... يدري كم الأرزاق والآجال
إلا الذي فوق السماء مكانه ... فلوجهه الإكرام والإجلال
قال: فهل نظرت في زجر الطير؟ قال: نحن معاشر العرب مولعون بزجر الطير. قال: فما أعجب ما رأيته منه؟ قال: شخصت أنا وصاحب لي من العرب إلى بعض الملوك فألفيناه يريد غزو قومٍ كانوا على دين النصرانية فخرج حتى إذا كان على فراسخ من مدينته أمر بضرب فساطيطه وأروقته لتتوافى إليه جنوده وضرب به فسطاط على شاطيء نهر وأمر بخباء فضرب لي ولصاحبي، فبينا نحن كذلك إذ أقبل طائران أسود وأبيض وأنا وصاحبي نرمقها حتى إذا كانا رأسه رفرفا وشرشرا ثم غابا ثم رجعا أيضاً حتى إذا كانا قريباً منه طوياه ثم أقبلا نحونا فوقفا ثم رتعا. فقال صاحبي: ما رأيت كاليوم طائرين أعجب منهما فأيهما أنت مختار؟ فقلت: الأسود. قال: الأبيض أعجبهما إليّ، فما تأوّلتهما؟ قلت: الليل والنهار يطويان هذا الرجل في سفره فيموت، وتأولت اختيارك الأبيض أنك تنصرف بيد بيضاء مخفقة من المال. فإذا هو قد غضب. فلما جن الليل بعث إلينا الملك لنسمر عنده فإذا صاحبي قد أخبره بالخبر، فسألني فأخبرته وصدقته. فغضب وقال: هذه حمية منك لأهل دينك. فقلت: أما أنا فقد صدقتك. فأمر بحبسي ومضى لوجهه، فلم يتجاوز إلا قليلاً حتى مات، فأوصى لي بعشرين ناقة وقال: قاتل الله قساً! لقد محضني النصيحة. فانصرفت من سفري ذلك بعدة من الإبل وانصرف صاحبي مخفقاً من المال.
قال الملك: وما رأيت أيضاً من الزجر أعجب؟ قلت: رأيت مرة عند الملك الهمام أبي قابوس وقد خرج عليه خارج من مضر يريد ملكه وقد حشد له فبعث إلى بعض عماله في توجيه أربعمائة فارس ووجهني مع الرسول وأمرنا بالشد على أيديهم في جمع الخيل والرجال، وكان الرسول شاعراً، فبينا نحن نسير إذ سنحت لنا ظباء أعنزٌ فيها تيس يقدمها، وكان أبو قابوس يواعد للقائه في يوم كذا وكذا، فنحن نقول إن كان الملك قد خرج في يوم كذا فهو اليوم في موضع كذا وقد أقبلنا ونحن نقود جيشاً عرمرماً، فأنشأ الرسول يقول:
ألا ليت شعري ما تقول السوانح ... أغادٍ أبو قابوس أم هو رائح
قال: فنظرت إلى التيس عند فراغه من هذا البيت قد دخل في مكنسه حتى توارى فيه، فدخلني من ذلك ما لم أقدر على أن أمسك نفسي حتى استرجعت.