فقال لي رفيقي: ما لك؟ قلت: إن صدق الزجر فصاحبك قد ثوى في التراب والتحف عليه أطباق الثرى. قال: كيف ذلك؟ قلت: وافق فراغك من البيت دخول التيس في مكنسه. فأعرض عني فلما أصبحت في اليوم الذي واعدنا للقائه لم يواف ولم يكن بأوشك من أن أتانا الخبر بهلاكه وقعود ابنه، فأكرمه قيصر وأحسن جائزته.
قلنا: أيّد الله الوزير! لقد بلغت باستحقاق ولقد حزت قصبة الرهان في كل منقبة. فتبسم وقال: عز الشريف أدبه. وإذا رسول الرشيد قد وافاه فنهض نحوه وتصدع المجلس وانصرفنا. فلما مضى من الليل بعضه إذ أنا بطارق قد طرقني وبين يديه غلمان على أعناقهم البدر وإذا رسول الفضل وقد حمل إلي مائة ألف درهم وقال: الوزير يقرأ عليك السلام ويقول: ضجرت باستماع الحديث وأوجبت عليّ بذلك منّةً وهذه صلة وتحةٌ في جنب قدرك عندي فخذها ولا تعتد بها. فقلت: سبحان الله الذي خلق هذا الرجل وجبله على كرم بذّ به من مضى ومن غبر! وإذا هو قد وجه إلى أصحابي الذين كانوا معي بمثل الذي وجّه به إليّ، فغدوت إليه وأردت أن أشكره فقال: والله لئن ذهبت تكشف ما ستر الله لأجفونك! فكأنما ألقمني بذلك حجراً، فاحتبسني عنده فطعمت وشربت ورحت وقد حملني على عدة أفراس بسروج مذهبةٍ ولجم مذهبة ووجه معي بعشرة تخوت ثياب وعشر بدر. قال فقال المأمون: ويحك يا إسحاق! ثواب حديثك ضعف ما أمر لك به الفضل وقد أمرت لك بمائة ألف درهم. فقبضت ذلك وانصرفت.
قال: وكان محمد بن حازم قال قصيدته التي يقول فيها:
فيا شامتاً مهلاً فكم من شماتة ... تكون لها العقبى لقاصمة الظهر
فاعتل محمد ولم يكن يرثه إلا أخوه وكان بسر من رأى، فوجهت إليه جاريته تعلمه بشدة علته، فقدم أخوه ومحمد لمآبه فأدخل الجارية بيتاً في الدار ووطئها قبل وفاة أخيه. فلما مات حمل المال والأثاث والجارية إلى منزله بسر من رأى وأخذ في الشراب، فانصرف ليلةً ثملاً فأراد المبيت على سطح الدار فمنع من ذلك فامتنع، فلما صار في أعلى الدرجة سقط وانقصف ظهره فجعلنا نتذاكر شعر أخيه.
قيل: ووفدت عزة كثيّر على عبد الملك بن مروان، فلما دخلت سلّمت فردّ عليها السلام ورحّب بها وقال: ما أقدمك يا عزة؟ قالت: شدة الزمان وكثرة الألوان واحتباس القطر وقلة المطر. قال: هل تروين لكثير:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغير
قالت: لا أروي له هذا، ولكني أروي له قوله:
كأني أنادي صخرةً حين أعرضت ... من الصم لو تمشي بها العصم زلّت
فقال: ما كنت لتصيري إلى حاجة أو تهبي نفسك لي فأزوجك منه.
قالت: الأمر إليك يا أمير المؤمنين، ما كنت لأزهد في هذا الشرف الباقي لي ما دامت الدنيا أن يكون أمير المؤمنين وليي. فعظم بذلك قدرها عنده وأمر لها بمال وكتب إلى كثير وهو بالكوفة: أم اركب البريد وعجّل فإني مزوجك عزة. فأتاه الكتاب وهو مضنىً من الشوق إليها فرحل فأقبل نحوها، فلما كان في بعض الطريق إذا هو بغراب على شجرة بانة وإذا هو ينتف ريشه ويطايره، وكان شديد الطيرة، فلما رآه تطير وهم بالانصراف ثم غلبه شوقه فمضى وهو مكروب لما رأى، حتى أتى ماءً لبني نهد، فإذا هو برجل يسقي إبله فنزل عن راحلته واستظل بشجرة هناك فأبصر النهدي، فأتاه وسأله عن اسمه ونسبه فانتسب، فرحب به، فأخبره عما رأى في طريقه، فقال: أما الغراب فغربة، وأنا البانة فبينٌ، وأما نتف ريشه ففرقة. فاستطير لذلك، ومضى حتى دنا من دمشق فإذا بجنازة فاستعبر وقال: أسأل الله خير ما هو كائن! فسأل عن الميت فإذا هي عزة، فخرّ مغشياً عليه، فعُرف وصب عليه الماء فكان مجهوده أن بلغ القبر، فلما دفنت انكب على القبر وهو يقول:
سراج الدجى ضمر الحشى منتهى المنى ... كشمس الضحى نوامة حين تصبح
إذا ما مشت بين البيوت تخزلت ... ومالت كما مال النزيف المرنح
تعلّقتُ عزاً وهي رؤدٌ شبابها ... علاقة حبٍ كاد بالقلب يرجح
أقول ونضوي واقفٌ عند رمسها ... عليك سلام الله والعين تسفح
فهلا فداك الموت من أنت دونه ... ومن هو أسوأ منك ذلاً وأقبح
على أم بكرٍ رحمة وتحيةٌ ... لها منك والنائي يودّ وينصح