قيل: وقدم أعرابي مصراً من الأمصار فدخل سوق النخاسين ليبتاع جارية فصادف جارية قد أقيمت لتباع يُبرأ فيها من الإباق والسرقة والسكر والفجور وقد تحاماها الناس فاشتراها وأبرأهم من عيوبها، فقال له رجل: يا عبد الله لقد اشتريت بمالك ما لم يكن غيرك يأخذه بلا ثمن! فقال: إنا لسنا نكره من مثلها ما تكرهون، أما الإباق فوالله إن أدنى ماء من مياهنا لعلى مسيرة خمس ولربما سرى الرجل الهادي من حيث ينزل فيصبح بحيث يرى فأنى لها بالإباق؟ وأما السرق فما عسى أن تسرق شاة أو بعيراً أو قتباً أو حلساً. وأما السكر فوالله ما نقدر على ريها من الماء فكيف تصيب شراباً؟ وأما الفجور فإن لنا زنوجاً يخدموننا فما نكره أن يقع عليها بعضهم فننتفع بولدها. ثم عمد إلى ثوبين مصبوغين كانا عليها فانتزعهما منها وقال: مولاتك أحق بهما. وألبسها مدرعة. فبكت الجارية وقالت: قد كانت مولاتي تدعو علي وتقول: باعك الله في الأعراب. فقال: لأنا نجيع كبده ونعري جلده ونطيل كدّه.
[محاسن مطالبة المعلمين بالتعليم]
قال: كان الرشيد جعفر محمداً الأمين في حجر الفضل بن يحيى وعبد الله المأمون في حجر جعفر بن يحيى. فقال الفضل بن يحيى لهيثم بن بشير الواسطي: ليكن أكثر ما تأخذ به وليّ العهد تعظيم الدماء، فإني أحب أن يشرب الله قلبه الهيبة لها والعفاف عن سفكها. ثم إن الرشيد أرسل إلى الأحمر النحوي فلما دخل عليه قال: يا أحمر أن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه وصيّر يدك عليه مبسوطة ومقالتك فيه مصدقة وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعلمه الآثار والأخبار والسنن وروّه الأشعار وبصّره مواقع الكلام ومره بالرزانة في مجلس والاقتصاد في نظره وسمعه، فلا تمرنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيده إياها وكلمة نافعة يعيها ويحفظها من غير أن تخرق به فتميت ذهنه وتملّه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه بالتقريب والملاينة، فإن أبى فالشدة.
قال الأحمر: فكنت كثيراً ما أشدد عليه في التأديب وأمنعه الساعات التي يتفرغ فيها للهو واللعب. فشكا ذلك إلى خالصة فأتتني برسالة من أم جعفر تعزم عليّ بالكف عنه وأن أجعل له وقتاً أجمّه فيه لتوديع بدنه. فقلت: الأمير قد عظم قدره وبعد صوته، وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولايه العهد لا يحتملان التقصير ولا يقبل منه الخطل ولا يرضى منه بالزلل في المنطق والجهل بشرائع الدين والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة.
قالت: صدقت غير أنها والدة لا تملك نفسها ولا تقدر على كف إشفاقها وحذرها ومع حذرها أمرٌ إن شئت حدثتك به. فقلت: وما ذاك؟ قات: حدثتني السيدة أنها رأت في الليلة التي حملت فيها به كأن ثلاث نسوة دخلن عليها فقعدت منهنّ ثنتان واحدة عن يمينها وواحدة عن يسارها، فأمرّت إحدى الثلاث يدها على بطنها ثم قالت: ملك ربحلٌ عظيم البذل ثقيل الحمل سريع الأمر. وقالت الثانية: ملك قصير العمر سليم الصدر متهتك الستر. وقالت الثالثة: ملكٌ قصّاف عظيم الإتلاف يسير الخلاف قليل الإنصاف. فانتبهت وأنا فزعةٌ فلم أحس لهن أثراً حتى كانت الليلة التي وضعته فيها أتينني في الخلق الذي رأيتهن فقعدن عند رأسه واطّلعن جميعاً في وجهه ثم قالت واحدة منهن: شجرة نضرة وريحانة جنيّة وروضة زاهره وعين غدقة، قليل لبثها عجل ذهابها. وقالت الثانية: سفيه غارم وطالب للمغارم جسورٌ على المخاصم. وقالت الثالثة: احفروا قبره وشقوا لحده وقربوا أكفانه وأعدوا جهازه فإن موته خير له من حياته. قالت: فبقيت متحيرة وبعثت إلى المنجمين والمعبرين ومن يزجر الطير فكل يبشرني بطول عمره ويعدني بقاءه وسعادته وقلبي يأبى إلا الحذر عليه والتهمة لما رأيت في منامي.
وبكت خالصة وقالت: يا أحمر وهل يدفع الإشفاق والحذر والاحتراق واقع القدر أو يقدر أحدٌ على أن يدفع عن أحبّائه الأجل؟ قلت: صدقت إن القضاء لا يدفعه شيء. ثم كان من أمره ما كان.