ثم قال: يا قوم لم أطنبت في ذكر هؤلاء وما الذي هاج هذا في هذه الساعة حتى خضت فيه؟ أما كفاني أني قائم على رجلي على أحد جناحيّ؟ قالوا: هذا للسكّر الذي ليس في خزانتك منه شيء. قال: أجل والله إذا كان وكيلي مشتغلاً بزوجته وبناته ومصالح حالهنّ متى يفرغ للنظر في مصالح خزانتي؟ والله والله لقد حُدثت أنه حلّى بناته بألوف دنانير وقال لزوجته اخرجي إلى الأعياد وادخلي الأعراس وسلي عن الرجال المذكورين واطلبي المراضع المعروفة والأنساب المرضية لبناتك وأخرجيهنّ في الجمعات يتصفحن محاسن الغرّات ويخترن أولي الأنساب، أولم يُرو عن الثقات أنهم كرهوا خروج الأبكار في الجمعات التي فرض الله جل وعز فيهنّ السعي إلى ذكره؟ فنبع قوم من هؤلاء المبتدعة خارجة خرجت ومارقة مرقت ورافضة رفضت الدين وأهل الدين فتركوا ما فرض الله جل وعز عليهم، فقاتلهم الله أنّى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وقد روينا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من غير وجهٍ ولا اثنين انه خطب الناس فقال في خطبته: إن الله جل وعز قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافاً بها وجحوداً بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أهله ولا حج له ولا جهاد حتى يتوب إلى الله جل وعز، فمن تاب تاب الله عليه.
ثم قال: يا قوم ما الذي حركنا على هذه الفضيلة في جوف هذه الليلة؟ قيل: السكر الطبرزد. قال: أجل والله فما أحضرتموني ألف من سكر إلى هذه الغاية! أيا نصح أيا فتح أيا صبح أيا نجح تبادروا مولاكم فإنه قد نصب وتعب من طول القيام! والله لأحسب الثريا مقابلة سمت رأسي، ذهب والله الليل وجاء الويل، ويلكم أدركوني فإني أريغ نومة ولا بد لي من البكور نحو الدار. فبادرت حرمه الخاصة فحثوا الباعة وانبهوا السوقة وأخذوا ما عندهم على غير سوم وجاؤوا به. فقال: ما هذا؟ قالوا: ما أمرت به. قال: فهل أخذتموه على الصفة التي وصفت لكم؟ قالوا: نعم. قال: فهل ورثتموه واستوجبتموه؟ قالوا: لا. قال: يا أعداء الله أردتم أن تفسدوا ديني! لا والله لا يطمع مني في هضيمة، لا والله لا تزال هذه حالي حتى تأخذوه بيعاً صحيحاً، لا شرط فيه ولا خيار ولا مثنوية ولا على حدّ تلجئة، هيهات يأبى الله جل وعز ذاك عليّ. قال: فرجعوا وساوموا الباعة وقطعوا ثمنه وأخبروه. فقال: يوزن بحضرتي. فأتوه بالقبان. فقال: من يزن منكم؟ قال: من أمرته. قال: زن يا نصح فقد دنا الصبح وأرجح فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، اشترى فقال للوزان: زن وأرجح، والله لو لم يكن في الرجحان إلا تحلّة القسم لكان في ذلك ما يدعو العلماء والفقهاء في دين الله جل وعز إلى العمل به. فجعل الغلام يزن ويرجح وهو يقول: ويلك عجّل فداك أهلك قد دنا الصبح أوه خرجت نفسي أو كادت! فلما استوى الوزن خرّ مغشياً عليه ما يدري أرضاً توسد أو وساداً، وكذلك كانت حال من كان في مثل حاله. فهذه يا أمير المؤمنين حال من أحمدت علمه وفهمه ورأيه.
فقال المأمون: قاتلك الله ما أعجب أمرك! على كل حال والله لئن كنت ولّدت هذا عن أبيك في مقامك ما في الأرض نظير ولا في السماء شبيه، وإن كنت حكيت عنه عياناً ووعيت فلقد أجدت الحكاية وأحسنت العبارة وما لأبيك في الدنيا شبيه، وإنك لتغمر مساويك بمحاسنك فلا تذكرنّ شيئاً من هذا بعد هذا المجلس فإن عيبه فينا أقدح منه في أبيك. قال: فذهب عليّ ليتكلم، فقال المأمون: لا تبضّنّ لسانك بحرف واحد. ثم أمر بنيه بالانصراف.
[محاسن البنات]
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم الولد البنات مطلَّقات مجهزات مؤنسات مباركات مفليات فاليات مندَّبات نادبات.
قال: ودخل عبد الله بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان وبنية له تمرغ على صدره فقال: أمطها عنك يا أمير المؤمنين فإنهنّ يقرين الأعداء ويورثن البعداء. فقال معاوية: مهلاً يا ابن الزبير فما مرّض المرضى ولا ندب الموتى ولا برّ الأحياء كهنّ. فقال ابن الزبير: قد تركتهن آثر عندي من الأبناء.
وحكي أنه قال: والله لقد دخلت يوماً وما أحدٌ أبغض إليّ منهنّ وإني أخرج وما أحد أحبّ إليّ منهنّ.