ثم اتخذ الرشيد قطرباً النحوي على الأمين، وكان حمّاد عجرد يتعشق الأمين ويطمع فيه أن يتخذه عليه مؤدباً فلم يتهيأ له ذلك لتهتكه وقبيح ذكره في الناس، وقد كان رام ذلك فلم يجب إليه، فلما سمع أن قطرباً قد استوى أمره وأجيب إلى ذلك لستره وعفافه أخذ حماداً المقيم والمقعد حسداً على ما ناله قطرب من ذلك وبلغه من المنزلة الرفيعة والدرجة السنية، فأخذ رقعة وكتب فيها أبياتاً ودفعها إلى بعض الخدم الذين يقومون على رأس الرشيد وجعل له على ذلك جعلاً وسأله أن يودع الرقعة دواة أمير المؤمنين. ففعل فما كان بأسرع من أن دعا الرشيد بالدواة فإذا فيها رقعة فيها هذه الأبيات:
قل للإمام جزاك الله مغفرةً ... لا يجمع الدهر بين السخل والذيب
السخل غرٌّ وهمُّ الذئب غفلته ... والذئب يعلم ما بالسخل من طيب
فلما قرأ الرشيد الرقعة قال: انظروا أن لا يكون هذا المعلم لوطياً انفوه من الدار. فأخرجوه عن تأديب الأمين واتخذ عليه حماداً، وجعل عليه ثمانين من الرقباء.
قال: ولما وُسم قطرب بهذه السمة القبيحة خاف أن يلحقه بعض ما يكره فهرب إلى الكرج وتوسل إلى أبي دلف ومعقل ببراعة الأدب، فلما عرفا غزارة فنه ووقفا على معرفته اصطفياه لأنفسهما وأحلاه محلاً رفيعاً وقدماه على جميع أهل الأدب وأرغدا له في العطية، فلما رأى قطرب برّهما به وإلطافهما به رغب في المقام بالكرج وأثرى وكثر ماله.
فيقال: إن أصل هذه الآداب التي وقعت بالكرج إلى أبي دلف ومعقل من علم قطرب وتصنيفه الكتب. وإن المأمون سأل أبا دلف: من خلّفت بالجبل منسوباً إلى الأدب؟ قال: ما خلّفت غير قطرب. فقال المأمون: صدقت، إن لقطرب لمحلاً من هذا الشأن.
وعن أبي محمد اليزيدي قال: كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري، فأتيته يوماً وهو داخل فوجّهت إليه بعض غلمانه يعلمه بموضعي فأبطأ عليّ ثم وجهت إليه آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تأخر وتشاغل بالبطالة. قال: أجل ومع هذا إذا تأخر تعرّم على خدمه ولقوا منه أذىً فقوّمه بالأدب. فلما خرج أمرت بحمله وضربته تسع درر، قال: فإنه ليدلك عينه من أثر البكاء إذ أقبل جعفر بن يحيى فاستأذن وأخذ منديلاً فمسح عينيه وجمع ثيابه وقام إلى فراشه وقعد عليه متربعاً ثم قال: يدخل. فدخل وقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه وحديثه حتى أضحكه وضحك. فلما همّ بالحركة دعا بدابته وأمر غلمانه فسعوا بين يديه ثم سأل عني فجئت فقال: خذ ما بقي من حزني. فقلت: أيها الأمير لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر ولو فعلت ذلك لتنكر لي. قال: إنا لله، أتراني يا أبا محمد كنت أُطمع الرشيد في هذه فكيف جعفراً أُطلعه على أني أحتاج إلى أدب؟ يغفر الله لك، خذ في أمرك فقد خطر ببالك ما لا تراه أبداً ولو عدت في كل يوم مرة.
وكان لسعيد الجوهري غلام قد لزّ بالمأمون في الكتّاب فكان إذا احتاج المأمون إلى محو لوحه بادر إليه فأخذ اللوح من يده فمحاه وغلب على غلمان المأمون ومسحه وجاء به فوضعه على المنديل في حجره، فلما سار المأمون إلى خراسان وكان من أخيه ما كان خرج إليه غلام سعيد فوقف بالباب حتى جاء أبو محمد اليزيدي فلما رآه عرفه فدخل فأخبر المأمون. فقال له مستبشراً بقدومه: لك البشرى! ثم أذن له فدخل عليه فضحك إليه حين رآه ثم قال: أتذكر وأنت تبادر إلى محو لوحي؟ قال: نعم يا سيدي. فوصله بخمس مائة ألف درهم. ثم اتخذ الرشيد الحسن اللؤلؤي بعد أبي محمد اليزيدي على المأمون، فبينا هو يطارحه شيئاً من الفقه إذ نعس المأمون. فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير! فقال المأمون: سوقيّ ورب الكعبة! خذوا بيده. فبلغ الرشيد ما صنع فقال متمثلاً:
وهل ينبت الخطّيَّ إلا وشيجه ... وتُغرس إلا في منابتها النخل
[محاسن المعلمين]
قال: شهد رجل عند سوّار القاضي فقال: ما صناعتك؟ قال معلم. قال: فإنا لا نجيز شهادتك. قال: ولم؟ قال: أنك تأخذ على التعليم أجراً. قال: وأنت تأخذ على القضاء بين المسلمين أجراً. قال: أُكرهت عليه. قال: فهبك أُكرهت على القضاء فمن أكرهك على أخذك الأجر والرزق على الله؟ فقال:هلمّ شهادتك، فأجازها.