ففعل عبد الملك ذلك. وأمره محمد بن علي بن الحسين أن يكتب السكك في جميع بلدان الإسلام وأن يتقدم إلى الناس في التعامل بها وأن يتهددوا بقتل من يتعامل بغير هذه السكك من الدراهم والدنانير وغيرها وأن تبطل وترد إلى موضع العمل حتى تعاد على السكك الإسلامية. ففعل عبد الملك ذلك وردّ رسول ملك الروم إليه يعلمه بذلك ويقول: إن الله جل وعز مانعك مما قدرت أن تفعله، وقد تقدمت إلى عمالي في أقطار الأرض بكذا وكذا وبإبطال السكك والطراز الرومية.
فقيل لملك الروم: افعل ما كنت تهددت به ملك العرب. فقال: إنما أردت أن أغيظه بما كتبت به إليه لأني كنت قادراً عليه والمال وغيره برسوم الروم، فأما الآن فلا أفعل لأن ذلك لا يتعامل به أهل الإسلام. وامتنع من الذي قال وثبت ما أشار به محمد بن علي بن الحسين إلى اليوم.
قال: ثم رمى الدرهم إلى بعض الخدم وقال: عليّ بالخازن. فأقبل الخازن. فقال: ائتني بالجبل. فأتاه بحُقّ فيه خاتم ياقوت يتّقد كأنه مصباح، فقال للخادم: ضع لنا هذا على هذا الدرهم الذي معك وليكن على مقدار إصبعي. ثم قال: أتعرف هذا الخاتم؟ فقلت: لا يا سيدي.
قال: إن ملك الترك كان غزا في زمن أبي مسلم سمرقند وعليها عامل له يقال له صبيح بن إسماعيل ومع ملك الترك قائد لملك الصين كان جليلاً عنده عظيم القدر بمنزلة ولي العهد أمدّه به لصهرٍ كان بينهما في سبعين ألف رجل، وإن صبيح بن إسماعيل ظفر بعسكر التركي وهزمه وغنم عامة ما فيه وأسر رجاله كافة وأسر القائد الصيني فيمن أسر فكان هذا الخاتم في إصبعه فأخذه منه وبعث به إلى أبي مسلم فبعث به أبو مسلم إلى أبي العباس فأعجب به إعجاباً شديداً ودعا له من يبصره من الجوهريين والمقومين وسألهم عن قيمته فلم يحسنوا أن يقوموه، فلم يزل مرفوعاً في خزانته إلى أن مات، فلما أخرج ما كان في خزانته من الجواهر والذخائر لتباع أُخرج هذا الخاتم فنودي عليه وطلبه المنصور وعيسى ابن موسى وتزايدا عليه فبلغ به المنصور أربعين ألف دينار وحرص على شرائه واشتدت عليه مزايدة عيسى إياه فيه، فلما رأى عيسى أن ذلك قد أغاظه أمسك عن مزايدته فاشتراه المنصور بأربعين أفل دينار، فما ظنك بشيء يشتريه المنصور بهذه الجملة في ذلك الزمان وكان الدرهم أعز من الدينار في زماننا؟ فلم يزل في خزانته إلى أن ولي المهدي فأخرجه ووهبه لي من دون أخي الهادي، وذلك أنه جعل ولايه العهد له فأرضاني عن ولاية العهد بهذا الخاتم وبأشياء أخر، فلما ولي الهادي طلب مني الخاتم فمنعته ولجّ فيه لجاجاً شديداً وبعث إليّ سعيد ابن سلم الباهلي يدعوني فعلمت لماذا يدعوني فأخذت هذا الخاتم وأخرجته من إصبعي، فلما توسطت الجسر قلت لسعيد: انظر إلى هذا الخاتم، ثم رميت به في دجلة. ومضى سعيد إلى الدار فأخبر الهادي بما كان مني. فبعث بالغواصين إلى الموضع الذي ألقيت فيه الخاتم فطلبوه أشد طلب فلم يقدروا عليه. فلما صار الأمر إلينا بعثنا بالغواصين فأخرجوه فها هوذا عندي. ثم قال: يا علي أتعبناك بذكر هذه الأموال وقد عوضناك لإصغائك إلينا بخمسين ألف درهم. فحملت بين يدي.
وحكي بعد ذلك أن هذا الخاتم صار إلى المأمون فوهبه لبوران ابنة الحسن بن سهل ذي الرياستين ثم صار إلى المعتصم ثم إلى المعتز والمستعين فنقشه المستعين ثم صار كل خليفة ينقش عليه اسمه حتى نقصت قيمته، وهو الآن عند الخليفة المقتدر بالله.