ثم وثب يحيى عند فراغ المأمون من يمينه فقام على رجليه. فقال له المأمون: ما أقامك؟ فقال: إني كنت في حق الله جل وعز حتى أخذته منك وليس الآن من حقك أن أتصدر عليك. وقبض على الرجل لئلا يخرج. فقال المأمون: ارفقوا به. ثم قال: يا غلام أحضرني ما ادّعى من المال. فلما أحضر قال: خذه إليك والله ما كنت أحلف على فجرة ثم اسمح لك فأفسد ديني ودنياي، والله يعلم ما دفعتُ إليك هذا المال إلا خوفاً من هذه الرعية لعلها ترى أن تناولتك من وجه القدرة وأني منعتك واجبك بالاستطالة عليك وإنها لتعلم الآن ما كنت أسمح لك باليمين. فقال: يا أمير المؤمنين أفأُحاط في المال حتى أصل إلى حيث آمن عليه؟ قال: إي والله ولو بالتُّغزغز وأسبيجاب. فأخرج الرجل مع المال وبذرق به إلى أن بلغ مأمنه
[ومنه روايات]
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الرجل إذا ظُلم فلم ينتصر ولم يجد من ينصره فرفع طرفه إلى السماء ودعا قال الله، جل وعز: لبيك عبدي أنصرك عاجلاً وآجلاً.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قولهم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه.
قال: وقال الفضيل بن عياض: بكى ابني فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي على من ظلمني وأخذ مالي ارحمه غداً إذا وقف بين يدي الله عز وجل وسأله فلا تكون له حجة.
قال: وقال الحسن البصري: يا أيها المصَّدّق على السائل ترحمه ارحم أولاً من ظلمت.
وروي عن عبد الله بن سلام أنه قال: قرأت في بعض الكتب قال تبارك وتعالى: إذا عصاني من يعرفني سلّطت عليه من لا يعرفني.
وقال خالد:إياكم ومجانيق الضعفاء، يريد الدعاء.
[ومنه توقيعات]
قال: وقّع المأمون في كتاب متظلم من أحمد بن هشام: اكفني أمر هذا الرجل وإلا كفيته أمرك. ووقّع في رقعة رجل من العامة تظلّم من عليّ بن هشام: يا أبا الحسن الشريف من يظلم من فوقه ويظلمه من دونه فاعلمني أي الرجلين أنت.
وقال عمرو بن مسعدة: كتبت إلى عامل دستبى كتاباً أطلته فأخذه المأمون من يدي وكتب: قد كثر شاكوك فإما عدلت وإما اعتزلت.
ووقّع في رقعة رجل تظلّم من الرستميّ: ليس من البر أن تكون آنيتك ذهباً وقدورك فضة وجارك يطوي وغريمك يعوي.
قال: ووقّع هشام بن عبد الملك في رقعة متظلّم من العامة: أتاك الغوث إن كنت صادقاً وحلّ بك النكال إن كنت كاذباً، فتأخر أو تقدم.
قال: ورفع رجل إلى المنصور قصة يتظلم فيها من عامل فارس فوقّع له: إن آثرت العدل صحبتك السلامة.
ووقّع لقوم متظلمين شكوا سيرة واليهم: كما تكونون يولّى عليكم.
ووقّع يحيى بن خالد لمتظلم من بعض الولاة: أنصف من وليت أمره وإلا أنصفهم من ولي أمرك.
ووقّع بعضهم إلى صاحب مظالم: ما أراني سالماً من المآثم بتوليتي إياك المظالم. يا رديء المختبر اعتزل غير محمود الأثر.
قيل: وقال رجل للمعتصم: يا أمير المؤمنين ظلمني من وافق اسمه فعله. فقال المعتصم لبغا: سله ممن يتظلم فإني أراه يتظلم من ظلوم. فسأله فقال: من ظلوم. فتبسم المعتصم وقال لابن أبي دؤاد: ما أبعد الرجل في قوله، قل لها بحياتي أنصفيه.
قال: وأخبرنا إبراهيم بن محمد قال: كنا مع المتوكل في بعض متنزهاته فوقف على تلٍّ كله حصى قد غسله المطر فاستحسنه فنزل فصلى وسبّح ثم قال في دعائه: اللهم إنك خلقتني ولم أك شيئاً ثم صيرتني فوق هذا الخلق وأنت قادر أن تزيل هذا كله فارزقني العدل والنصفة وألق في قلبي لهم الرأفة والرحمة. ثم بكى وأخذ كفاً من ذلك الحصى فجعله على رأسه وجعل يقلب خده ووجهه على الأرض ثم قام فركب.
[مساوئ أخذ الجار بالجار]
قال: قال الحجاج بن يوسف: لآخذن السميّ بالسميّ والولي بالولي والجار بالجار، وقد لعن الناس قائل هذا البيتك
أرى أخذ البريّ بغير جرمٍ ... تجنُّب ما يحاذره السقيم
وقال الحارث بن عباد في هذا المعنى:
لم أكن من جناتها علم الل ... هـ وإني بحرّها اليوم صالي
وقيل:
لعل له عذراً وأنت تلوم
وأنشد في مثله النابغة:
فحمّلْتني ذنب امريءٍ وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع