قال: فانصرفت فلما كان يوم الأحد جلس فكان أول من دعا به المرأة، فسلمت فرد المأمون عليها السلام وقال: أين الخصم، رحمك الله؟ قالت: هو واقف على رأسك وقد حيل بيني وبينه. وأومأت إلى العباس ابنه. فقال: يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأقعده معها. قال: ففعل ذلك. فجعلت تعلو على العباس بصوتها وتقول: ظلمتني واعتديت عليّ وأخذت ضيعتي. فقال لها أحمد: ما هذا الصياح؟ إنك بين يدي أمير المؤمنين تناظرين الأمير! فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. فلم يزالا يتناظران حتى حكم المأمون لها برد ضيعتها ثم قال: يا أحمد اردد عليها ما جباه العباس من ضيعتها وادفع إليها عشرة آلاف درهم ترمّ بها ما أراه من سوء حالها واكتب إلى والينا وقاضينا بإرفاقها والنظر في أمرها وأوغر لها خراج ضيعتها بالشيء الطفيف وليكن ذلك في يومنا هذا. فما برحت حتى قضيت حوائجها وخرجت.
وعن الحسن بن سهل قال: جلس المأمون ذات يوم للمظالم وإذا هو برجل قد مثل بين يديه وفي يده رقعة فيها سطران: بسم الله الرحمن الرحيم. مظلمة من أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فقال: أمظلمة مني! قال: أفأخاطب بالخلافة سواك؟ قال له: وما ظلامتك هذه؟ قال: ثلاثون ألف دينار. قال: وما وجهها؟ قال: إن سعيداً وكيلك اشترى مني جوهراً بثلاثين ألف دينار وحمله إلى منزلك ولم يوفر عليّ المال. قال: فإذا اشترى سعيد منك الجوهر تشكو الظلامة مني! قال: نعم إذا كانت الوكالة قد صحت له منك. قال: إن كلامك هذا يحتمل ثلاث جهات: أما أول ذلك فلعل سعيداً قد اشترى هذا الجوهر منك كما زعمت وحمله إلينا وأخذ المال من بيت المال ولم يوفّره عليك، أو لعله قد وفّره وادعيت باطلاً، أو اشتراه لنفسه. أما في العاجل فلا يلزمني لك حق ولا أعرف لك ظلامة.
فقال الرجلك إن الله جل وعز قد أهّلك لموضع رفيع واختصك بنسب جعلك أولى الخلق معه بالانصاف فإنك مناسب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، واسترعاك على خلقه فهلا تحملني على كتاب الله جل وعز وسنّة ابن عمك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسنة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في رسالته إلى أبي موسى الأشعري وهي التي اتخذتموها صدور أحكامكم ووصية لقضاتكم إذ يقول: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
قال المأمون: فإنك والله قد عدمت البينة فما يجب لك إلا حلفةٌ ولئن حلفتها لأنا صادق إذ كنت لا أعرف لك حقاً يلزمني.
قال: فإذاً أدعوك إلى الحاكم الذي نصبته لرعيتك. قال: نعم، يا غلام عليّ بيحيى بن أكثم. فإذا هو قد مثل بين يديه. فقال: يا يحيى! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: اقض بيننا. قال: في حكم وقضية! قال: نعم. قال: لا أفعل. قال: ولم؟ قال: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضائي. قال: قد فعلت. قال: فإني أبدأ بالعامة أولاً ليصبح المجلس للقضاء. قال: افعل.
ففتح الباب وقعد في ناحية من الدار وأذن للعامة ونادى المنادي وأخذ الرقاع ودعا بالناس ثم دعا الرجل المتظلم فقال له يحيى: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون. فنادى المنادي فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل قد أرسلها على عقبيها في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلى حتى وقف على يحيى وهو جالس. فقال له: اجلس. فطرح المصلى ليقعد عليه. فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين لا تأخذ على خصمك شرف المجلس. فطرح له مصلى آخر فجلس عليه. وقال له يحيى: ما تقول؟ فقال: لي على هذا ثلاثون ألف دينار. قال: ومن هذا؟ قال: أمير المؤمنين المأمون بالله. قال له يحيى: يا أمير المؤمنين قد سمعت ما يقول؟ قال: سله ما وجهها. فأعاد خبر الوكيل. فقال المأمون: ما أعرف له حقاً. فأقبل على الرجل فقال: قد سمعت، ألك بينة؟ قال: لا. قال: فما تريد؟ قال: ما يوجبه الحكم لمن عدم البينة. قال المأمون: ويحك قد لججت في اليمين! قال: يا أمير المؤمنين أتحلف؟ قال: إي والله ولا أوطيء نفسي العشوة في إعطاء رجل ما لا يجب له ظلماً. فقال: قل والله. فاستحلفه غموساً.