للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأخبرنا بعض أصحابنا قال: شهدت المأمون يوماً وقد خرج من باب البستان ببغداد فصاح به رجل بصريّ: يا أمير المؤمنين إني تزوجت بامرأة من آل زياد وإن أبا الرازي فرّق بيننا وقال هي امرأة من قريش. قال: فأمر عمرو بن مسعدة فكتب إلى أبي الرازي: إنه قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من الزيادية وخلعك إياها إذ كانت من قريش، فمتى تحاكمت إليك العرب لا أم لك في أنسابها، ومتى وكلتك قريش يا ابن اللخناء بأن تُلصق بها من ليس منها؟ فخلّ بين الرجل وامرأته، فلئن كان زياد من قريش إنه لابن سمية بغي عاهرةٍ لا يفتخر بقرابتها ولا يتطاول بولادتها، ولئن كان ابن عبيد لقد باء بأمر عظيم إذ ادعى إلى غير أبيه لحظٍّ تعجّله ومُلكٍ قهره.

وحدثنا غيره قال: شهدت المأمون يوماً وقد ركب بالشماسية وخلف ظهره أحمد بن هشام، فصاح به رجل من أهل فارس: الله الله يا أمير المؤمنين! فإن أحمد بن هشام ظلمني واعتدى عليّ! فقال: كن بالباب حتى أرجع فأنظر في أمرك.

فلما مضى التفت إلى أحمد بن هشام فقال: ما يؤمنك منا أن نوقفك وصاحبك هذا على رؤوس هذه الجماعة وتقعد مع خصمك حيث يقعد ثم يكون محقاً وتكون مبطلاً! فكيف إن كنت في صفته وكان في صفتك؟ فوجّه إليه من يحوّله عن بابنا إلى رحلك وأنصفه من نفسك وأعطه ما أنفق في طريقه إلينا، ولا تجعل لنا ذريعة إلى لائمتك، فوالله لو ظلمت العباس ابني كان أهون عليّ من ظلمك ضعيفاً لا يجدني في كل وقت ولا يخلو له وجهي، ولا سيما من كان يتجشم السفر البعيد ويكابد حر الهواجر وطول المسافة. قال: فوجه إليه أحمد بن هشام فحوّله إلى مضربه وكتب إلى عامله بردّ ما أخذ منه، ووصل الرجل بأربعة آلاف درهم.

قال: وتنازع رجلان بباب الجسر أحدهما من العظماء والآخر من السوقة فقنّعه الرجل فصاح السوقي: وا عمراه ذهب الإسلام! فأُخذ الرجل وكتب بخبره إلى المأمون، فدعاه وقال له: ما كانت حالك؟ فأخبره. وأحضر خصمه وقال له: لم قنّعت هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا رجل معاملي وكان سيء المعاملة وكنت صبوراً على ذلك منه، فلما كان في هذا اليوم مررت بباب الجسر فأخذ بلجام دابتي وقال: لا أفارقك حتى تخرج إليّ حقي. فقلت له: إني أبادر إلى باب إسحاق بن إبراهيم. فقال: والله لو جاء إسحاق ومن ولّى إسحاق ما فارقتك. فما صبرت حين عرّض بالخلافة أن قنّعته فصاح: وا عمراه ذهب الإسلام منذ ذهب عمر. فقال للرجل: ما تقول؟ قال: كذب عليّ وقال الباطل. فقال الرجل: لي جماعة يشهدون على مقالته يا أمير المؤمنين، فإن أذنت لي أحضرتهم. قال المأمون للرجل: من أين أنت؟ قال: من أهل فامية. فقال: أما إن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول: من كان جاره نبطياً واحتاج إلى ثمنه فليبعه. فإن كنت إنما طلبت سيرته فهذا حكمه في أهل فامية. ثم أمر له بألف درهم وأمر صاحبه أن ينصفه.

وحدثنا أبو الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد بن قحطبة قال: قعد المأمون للمظالم ذات يوم فلم يزل قاعداً إلى أن قلنا قد فاتته الصلاة، فكان آخر من دعي امرأة فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم فقال: وعليكِ السلام، تكلمي يا أمة الله. فقالت:

يا خير منتصفٍ يُهدى به الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد

أشكو إليك عقيد الملك أرملةً ... عدا عليها فلا تقوى به الأسد

فابتز مني ضياعي واستبد بها ... ففارق العيش مني الأهل والولد

فقال المأمون:

في دون ما قلت عيل الصبر والجلد ... وقد تقطّع مني القلب والكبد

هذا أوان صلاة الظهر فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد

والمجلس السبت إن يُقض الجلوس لنا ... ننصفك فيه وإلا المجلس الأحد

<<  <   >  >>