قال: يكفيني من ذلك شاهداً عدلٍ، اكتبوا له إلى بلاده إن أقام شاهدي عدلٍ أن الأرض له ولآبائه فادفعوها إليه. فلما ولى الرجل قال: انظروا هل هلكت له راحلة أم نفد له زاد أو تخرّق له من حذاء. فحسبوا ذلك فبلغ ثلاثين ديناراً فأُتي بها فعُدّت في يده.
قال ابن عياش: وخرج عمر ذات يوم من منزله على بغلة له وعليه قميص وملاءة إذ جاء رجل على راحلة حتى أناخها وسأل عن عمر فقيل له: قد خرج وهو راجع الآن. فأقبل عمر ومعه رجل يسايره، فقيل للرجل: هذا أمير المؤمنين. فقام فشكا إليه عدي بن أرطاة في أرض له، فقال عمر: قاتله الله! أما والله ما غرنا إلا بعمامته السوداء، أما إني قد كتبت إليه فضلاً عن وصيتي إن من أتاك ببينة على حق له فسلمه إليه، ثم قد عنّاك إليّ. فكتب إلى عديّ بردّ أرضه وقال للرجل: كم أنفقت؟ قال: تسألني عن نفقتي وقد رددت عليّ أرضاً هي خير من مائة ألف درهم! قال: إنما ردها عليك حقك، أخبرني كم أنفقت؟ قال: ما أدري. قال: احرزوه، فإذا هو ستون درهماً، فأمر له بها من بيت المال، فلما ولّى صاح به فرجع فقال: وهذه خمسة دراهم من مالي فكل بها لحماً حتى تبلغ.
الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال: أخبرني دهقان السيلحين قال: كان لسعيد بن مالك إلى جنبي ضيعة وكان رجلاً حديداً فأتيته فقلت له: أعدني على نفسك. فأمر بي فوُجئت في عنقي، فقلت: لأرحلن إلى عمر. فدخلت على امرأتي فأعلمتها ذلك فقالت: إني أخاف أن لا تصنع شيئاً ويجتريء عليك. فقلت: إني أكره أن تحدث العجم بأني قلت شيئاً لم أفعله. قال: فخرجت حتى قدمت المدينة فسألت عن عمر، رحمه الله، فدُللت عليه وأُرشدت إليه.
فلما أتيت منزله دخلت فإذا عمر، رضي الله عنه، جالس على عباءة، فرفع رأسه إليّ وقال: كأنك لست من أهل الملة. فقلت: أنا رجل من أهل الذمة. قال: فما حاجتك؟ قلت: لسعيد بن مالك ضيعة إلى جانبي وإني أتيته أستعديه على نفسه فأمر بي فوُجئت في عنقي فقلت لأرحلنّ إلى عمر. فقال: يا يرفا ائتني بالدواة والمكتب. فأتاه بجراب، فأدخل يده وأخرج صحيفةً فكتب فيها، ثم أخرج سيراً يشدّها به فلم يقدر عليه فتناول خيطاً من العباءة التي تحته وقد تنشّرت جوانبها فشدّها به، فأردت أن لا آخذها ثم تناولتها متثاقلاً، فكأنه عرف ما في نفسي فقال: ائته فإن كفاك وإلا فأقم واكتب إليّ. قال: فخرجت حتى قدمت على أهلي فقالوا: ما صنعت؟ قلت: أتيت رجلاً لم يقدر على سير يشدّ به صحيفته حتى تناول خيطاً من عباءة كانت تحته قد تفزّزت وتنشّرت جوانبها فشدّها به. قالوا: وما عليك من ذلك إن نفذ أمره؟ قال: فأتيت سعيداً فناولته الكتاب، فلما قرأه أُرعدت فرائصه حتى سقط الكتاب من يده وقال: ويلك ما صنعت؟ اذهب فالأرض لك. فقلت: لا أقبلها. فقال: لا والله لا أخذتها أبداً.
قال: وكان نسخة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحمن. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سعيد بن مالك. سلام عليك. أما بعد فإن مهرزاد دهقان السيلحين ذكر أن له ضيعة إلى جانبك وأنه أتاك يستعديك على نفسك فأمرت به فوجئت عنقه فإذا جاءك كتابي هذا فأرضه من حقه وإلا فأقبل إلي راحلاً، والسلام.
قيل: ولما ولي المأمون الخلافة عرضت عليه سيرة أبي بكر، رحمه الله، وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها.
فقال: أمير المؤمنين لا يطيق ذلك. ثم عُرضت عليه سيرة عمر، رضي الله عنه، وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها فقال: أمير المؤمنين لا يطيق هذا. ثم عُرضت عليه سيرة عثمان، رحمه الله، وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها. فقال: أمير المؤمنين لا يطيق هذا. ثم عرضت عليه سيرة علي، رضي الله عنه. وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها. فقال: أمير المؤمنين لا يطيق هذا. ثم عرضت عليه سيرة معاوية بن أبي سفيان وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها كيف شاء. فقال: إن كان فهذا.