قال أبو أحمد بن القاسم بن واضح، رحمه الله: كان محمد بن الواثق وهو المهتدي بالله قبل الخلافة يكثر عند المعتز بالله الجلوس والخلافة يومئذ بسر من رأى فيرجع المعتز إلى قول محمد في أموره وما يمضيه ويبرمه، وكان كثير المعارضة لأم المعتز فيما تأمر به وتنهى، فلم تزل بالمعتز إلى أن أمر بإحداره إلى مدينة السلام على كره منه، فلما أمر بذلك كان وزيره أحمد بن إسرائيل منحرفاً عن محمد بن الواثق وأحب أن يخرجه مع حرمه نهاراً ليسوءه ويضع منه، فسأل محمد بن الواثق القاسم بن واضح لحال كانت بينهما وزلفة كانت له عنده متقدمة أن يدخل مع صاحبه المعروف بالطوسي ويسأله أن يخرجه وحرمه ليلاً، ففعل وكلم أحمد بن إسرائيل ورققه ولاطفه، فغضب أحمد واحتد، وكان غير حافظ للسانه قليل الفكر في العواقب متهوراً، فأطلق لسانه بكلام بشع قبيح وقال: من هو ومن بناته وحرمه الكذا الكذا حتى لا يخرجون نهاراً! فقال القاسم: ليت أن رجلي انكسرت ولم أحضر هذا المجلس. وقام معه الطوسيّ رسول محمد بن الواثق وما زال يسأله أن لا يردّ خبر المجلس ولا يحكي الكلام الذي بدر من أحمد بن إسرائيل، فوعده وخالفه لما فارقه ولم يصبر حتى مضى فحكاه لمحمد بن الواثق، وأحدر محمد مع حرمه نهاراً إلى مدينة السلام، فوقر ذلك في نفس محمد وحقده على أحمد بن إسرائيل. فلم يمض إلا القليل حتى قعد محمد بن الواثق في الخلافة بعد قتل المعتز.
وكان رجلاً تقياً متألهاً يؤثر العدل والإنصاف ويتحرج ويحبّ إظهار السنن الحسنة وإقامة الدين على شرائعه المستويه وأعلامه القديمة من الخلفاء الذين عدلوا، إلا أن أيامه قصرت وكان الأتراك قد غلبوا على الخلافة لكثرة معارضتهم للخلفاء وإضعافهم أيديهم وإنهائهم أمرهم.
فأمر لما ولي الخلافة بالقبض على أحمد بن إسرائيل وأبي نوح الكاتب والحسن بن مخلد. وكانت عليهم تدور دولة المعتز من قبله. ورسم أن يُضرب أحمد بن إسرائيل بباب العامة ألف سوط فإن مات وإلا زيد ضرباً حتى يتلف، وذلك لما كان منه من القول الذي كان سبب تلفه. فراسل أحمد القاسم بن واضح في أن يشفع له إلى المهتدي، ففعل وكتب إليه رقعة وصلت مع خادم له اسمه مستطرف، فوقّع المهتدي: هذا رجل لنا في جنبه حدود أنت شاهد ببعضها ولا سبيل إلى الصفح عنه. وكان ذلك تذكيراً له بأمر المجلس وقول أحمد ما قاله فيه وفي حرمه. وضُرب أحمد إلى أن تلف. ثم كلم المهتدي في أمر أبي نوح الكاتب والحسن بن مخلد فقال: لأبي نوح حرمةٌ وهي أن أمه كانت تهدي إلينا كامخاً كالناطف المعقود وزيتوناً كأمثال البيض فاطلقوا عنه، وأما الحسن بن مخلد فقد بلونا منه نصحاً وميلاً فردوه إلى منزلته. وتخلصا جميعاً وعادا في الأمر.
وكان المهتدي فصيحاً شجاعاً فطناً عارفاً بالتدبير لو أمهل ولم تعجل الأتراك إلى قتله. وكان خرج يوماً في هيجٍ لهم وبيده العقرب سيف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وحمل على الأتراك ووسط منهم جماعة قدّهم وقطعهم. وكان إذا جلس للمظالم أمر بأن توضع كوانين الفحم في الأروقة والمنازل عند تحرك البرد، فإذا دخل المتظلم أمر بأن يدّفيء ويجلس ليسكن ويثوب إليه عقله ويتذكر حجته ثم يدنيه ويسمع منه، ويقول: كيف يدلي المتظلم بحجته إذا لم يُفعل به هذا وقد تداخلته رهبة الخلافة وألم البرد؟ وكان الغالب على أمر الخلافة في أيامه وصيفٌ الكبير وداره معروفة بمدينة السلام في مربّعة الخرسي إلى اليوم.
[محاسن الحبس]
لعلي بن الجهم:
قالت حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأيّ مهند لا يغمد
أوما رأيت الليث يحمي غيله ... كبراً وأوباش السباع تردد
والنار في أحجارها مخبوءةٌ ... لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والبدر يدركه السرار فتنجلي ... أيامه وكأنه متجدد
والزاعبية لا يقيم كعوبها ... إلا الثقاف وجذوةٌ تتوقد
غير الليالي بادئاتٌ عوّدٌ ... والمال عارية يفاد وينفد
ولكل حالٍ معقبٌ ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يؤيسنّك من تفرّج كربةٍ ... خطبٌ أتاك به الزمان الأنكد
كم من عليلٍ قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعُوّد