فقلت كريمٌ له همةٌ ... ينال فأُدرك ما أطلب
فنلتَ وأقصيتني جانباً ... كأني ذو عرّةٍ أجرب
[محاسن الثقة بالله عز وجل]
قيل: خطب سليمان بن عبد الملك فقال: الحمد لله الذي أنقذني من ناره بخلافته. وقال الوليد بن عبد الملك: لأشفعنّ للحجاج بن يوسف وقرّة بن شريك. وقال الحجاج: يقولون مات الحجاج! فمه ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت! والله ما رضي الله البقاء إلا لأهون خلقه عليه إبليس إذ قال: رب أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
وقال أبو جعفر المنصور: الحمد لله الذي أجارني بخلافته وأنقذني من النار بها.
وحدثنا إبراهيم بن عبد الله رُفع الحديث إلى أنس بن مالك قال: دخلنا على فتىً من الأنصار وهو ثقيل في مرضه فلم نخرج من عنده حتى قضي عليه، وإذا عجوز عند رأسه، فالتفت إليها بعض القوم وقال: استسلمي لأمر الله عز وجل واحتسبي. قالت: أمات ابني؟ قال: نعم. قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم. فمدّت يدها إلى السماء ثم قالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك وهاجرت إلى نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم، رجاء أن تعينني عند كل شدة! اللهم فلا تُحملني هذه المصيبة اليوم! فكشف ابنها الثوب الذي سجّيناه به عن وجهه وما برحنا حتى طعم وطعمنا معه.
وقيل: وبينا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يعرض الناس إذا هو برجل معه صبي له. فقال له عمر، رضي الله عنه: ويحك ما رأيت غراباً أشبه بغراب مِن هذا بك! فقال: يا أمير المؤمنين والله ما ولدته أمه إلا وهي ميتة. فاستوى عمر، رحمه الله، جالساً وقال: ويحك حدثني! قال: خرجت في غزاةٍ وأمه حامل به، فقالت: تخرج وتدعني على هذه الحالة حاملاً مثقلاً؟ فقلت: أستودع الله ما في بطنك. فغبت ثم قدمت وإذا بابي مغلق، فقلت: ما هذا وما فعلت فلانة؟ قالوا: ماتت. فذهبت إلى قبرها وكنت عنده، فلما كان من الليل قعدت مع بني عمي أتحدث وليس يسترنا من البقيع شيء، فرفعت لي نارٌ بين القبور، فقلت لبني عمي: ما هذه النار؟ فقال أحدهم: يا أبا فلان نرى على قبر فلانة كل ليلة ناراً! فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كانت صوامة قوّامة عفيفة، والله لأنبشنّ قبرها ولأنظرن ما حالها. فأخذتُ فأساً وأتيت القبر فإذا هو مفتوح والمرأة ميتة وهذا حي يدب حولها، فنادى مناد: أيها المستودع ربه وديعته خذ وديعتك، أما إنك لو استودعته أمه لوجدتها! فأخذته وعاد القبر كما كان، وهو والله يا أمير المؤمنين هذا.
[مساوئ الثقة]
قال: قال عيسى بن مريم، عليه السلام: يا معشر الحواريين إن ابن آدم خُلق في الدنيا في أربعة منازل هو في ثلاثة منها واثق بالله عز وجل وهو في الرابع سيء الظن يخاف خذلان الله عز وجل إياه، فأما المنزلة الأولى فإنه خُلق في بطن أمه خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، ينزل الله جل وعز عليه رزقه في جوف ظلمة البطن، فإذا خرج من ظلمة البطن وقع في اللبن لا يخطو إليه بقدم ولا ساق ولا يتناوله بيد ولا ينهض بقوة ويكره عليه إكراهاً ويوجره إيجاراً حتى ينبت عليه عظمه ودمه ولحمه، فإذا ارتفع من اللبن وقع في المنزلة الثالثة في الطعام بين أبويه يكتسبان عليه من حلال وحرام، فإن مات أبواه عن غير شيء عطف عليه الناس هذا يطعمه وهذا يسقيه وهذا يؤويه، فإذا وقع في المنزلة الرابعة واشتد واستوى وكان رجلاً خشي أن لا يرزق يثب على الناس يخون أماناتهم ويسرق أمتعتهم ويكابرهم على أموالهم مخافة خذلان الله عز وجل إياه.
[محاسن طلب الرزق]
بلغنا عن ابن السماك أنه قال: لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض، وكن اليوم مشغولاً بما أنت عنه غداً مسؤول، وإياك والفضول فإن حسابها طويل.
وقال عمرو بن عتبة: من لم يقدّمه الحزم أخّره العجز.
وقال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم احدث لي سفراً أحدث لك رزقاً.
وفي بعض الحديث: سافروا تغنموا، وقال الكميت:
ولن يزيح هموم النفس إذ حضرت ... حاجات مثلك إلا الرَّحل والجمل
وقال الطائي:
وطول مقام المرء في الحيّ مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبةً ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد