وقيل لأعرابي وقد تزوج بعدما كبر وأسن: لم تأخرت عن التزوج؟ قال: أبادر ابني باليتم قبل أن يسبقني بالعقوق.
قال: وقال رجل لأبيه: يا أبتا إن عظيم حقك لا يبطل صغير حقي، ولا أقول إني وإياك بالسواء، ولكن الله جل وعز لا يحب الاعتداء.
[محاسن بر الأبناء بالآباء والأمهات]
عن طاؤوس عن أبيه قال: كان رجل له أربعة بنين فمرض فقال أحدهم: إما أن تمرّضوه وليس لكم من ميراثه شيء وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء. قالوا: بل تمرضه وليس لك من ميراثه شيء. فمرضه حتى مات ولم يأخذ من ميراثه شيئاً.
قال: فأُتي في النوم فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه مائة دينار. فقال: أفيها بركة؟ قالوا: لا. فلما أصبح ذكر لك لامرأته فقالت: خذها فإن من بركتها أن نكتسي منها ونعيش بها. فلما أمسى أُتي في النوم فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير. فقال: أفيها بركة؟ قالوا: لا. فلما أصبح ذكر لك لامرأته فقالت له مثل ذلك، فأبى أن يأخذها. فأُتي في الليلة الثالثة فقيل له: ائت مكان كذا وكذا وخذ منه ديناراً. فقال: أفيه بركة؟ قالوا: نعم. قال: فذهب فأخذ الدينار ثم خرج به إلى السوق فإذا هو برجل يحمل حوتين. فقال: بكم هما؟ قال: بدينار. فأخذهما منه وانطلق بهما إلى بيته، فلما شقهما وجد في بطن كل واحد منهما درة لم ير الناس مثلها، فبعث الملك يطلب درة يشتريها فلم توجد إلا عنده فباعها بثلاثين وقراً ذهباً. فلما رآها الملك قال: ما تصلح هذه إلا بأخت فاطلبوا أختها ولو أضعفتم الثمن. فجاؤوه وقالوا: أعندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: نعم. فأعطاهم الثانية بضعف ما باع به الأولى.
قال: وذكر المأمون بر الأبناء بالآباء فقال: لم أر أحداً أبرّ من الفضل بن يحيى، فإنه بلغ من بره بأبيه أنهما حيث حبسا كان الفضل يسخن ليحيى الماء لوضوئه لأنه كان يتوضأ بالماء السخن، فمنعهم السجان ذات ليلة من إدخال الحطب والليل بارد فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقم كان يسخن فيه الماء فملأه من الجبّ ثم جاء به إلى القنديل فأدناه منه فلم يزل قائماً والقمقم في يده حتى أصبح وقد سخن الماء، فأدناه من أبيه.
قال: ولما وجه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الجيش إلى اليرموك قام إليه أمية بن الأسكر الكناني فقال: يا أمير المؤمنين هذا اليوم من أيامي لولا كبر سني. فقام إليه ابنه كلاب، وكان عابداً زاهداً، فقال: لكني يا أمير المؤمنين أبيع الله نفسي وأبيع دنياي بآخرتي. فتعلق به أبوه وكان في ظل نخل له وقال: لا تدع أباك وأمك شيخين ضعيفين ربياك صغيراً حتى إذا احتاجا إليك تركتهما! فقال: نعم أتركهما لما هو خير لي. فخرج غازياً بعد أن أرضى أباه، فأبطأ وكان أبوه في ظل نخل له، وإذا حمامة تدعو فرخها، فرآها الشيخ فبكى، فرأته العجوز فبكت، وأنشأ يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً ... كتاب الله إن ذكر الكتابا
أناديه ويعرض لي حنينٌ ... فلا وأبي كلابٌ ما أصابا
تركت أباك مرعشةً يداه ... وأمك ما تسيغ لها شرابا
فإن أباك حين تركت شيخٌ ... يطارد أينقاً شزباً جذابا
إذا رُتّعن إرقالاً سراعاً ... أثرن بكل رابيةٍ ترابا
طويلاً شوقه يبكيك فرداً ... على حزنٍ ولا يرجو الإيابا
إذا غنت حمامة بطن وجٍّ ... على بيضاتها ذكرا كلابا
فبلغت هذه الأبيات عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأرسل إلى كلاب فوافاه فقال: إنه بلغني أن أباك وجد لفراقك وجداً شديداً فبماذا كنت تبره؟ قال: كنت أبره بكل شيء حتى أني كنت أحلب له ناقة فإذا حلبتها عرف حلبي. فأرسل عمر، رحمه الله، إلى الناقة فجيء بها من حيث لا يعلم الشيخ فقال له: احلبها. فقام إليها وغسل ضرعها ثم حلبها في إناء. فأرسل عمر، رحمه الله، بالإناء إلى أبيه فلما أُتي به بكى ثم قال: إني أجد في هذا اللبن ريح كلاب. فقال له نسوة كن عنده: قد كبرت وخرفت وذهب عقلك، كلاب بظهر الكوفة وأنت تزعم أنك تجد ريحه! فأنشأ يقول:
أعاذل قد عذلت بغير علمٍ ... وهل تدري العواذل ما ألاقي
سأستعدي على الفاروق رباً ... له حجُّ الحجيج على اتساق