للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فقال يوماً ليحيى: أدخل إليّ هذا الغلام المجوسي حتى أنظر إليه، ففعل يحيى ذلك، فلما مثل بين يديه وقف وتحير وأراد الكلام فأُرتج عليه وأدركته كبوة، فنظر الرشيد إلى يحيى نظر منكر لما كان تقدم من تفريطه إياه، فانبعث الفضل فقال: يا أمير المؤمنين إن من أبين الدلالة على فراهة المملوك شدة إفراط هيبته لسيده. فقال له الرشيد: أحسنت والله! لئن كان سكوتك لتقول هذا إنه لحسن وإن كان هذا شيء أدركك عند انقطاعك إنه لأحسن وأحسن. ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه مقدماً فيه مبرزاً. فضمه المأمون في ذلك اليوم.

وقال الفضل بن سهل للمأمون وقد سأله حاجة لبعض أهل بيوتات دهاقين سمرقند ووعد تعجيل إنفاذها فتأخر ذلك عليه: يا أمير المؤمنين هب لوعدك تذكراً من نفسك وهنيء سائلك حلاوة نعمتك واجعل ميلك إلى ذلك في الكرم حاثاً على اصطفاء شكر الطالبين لتشهد القلوب بحقائق الكرم والألسن بنهاية الجود. فقال: قد جعلت إليك إجابة سؤّالي عني بما ترى فيهم وأخذتك بالتقصير فيما يلزم لهم من غير استثمار ولا معاودة في إخراج الصكاك من أخضر المال متناولاً. قال: إذاً لأتحدى معرفتي بما يجب لأمير المؤمنين الهنأُ بما يديم له حسن الثناء، ومن دعائهم طول البقاء.

قال: وقال الفضل بن سهل للمأمون: يا أمير المؤمنين اجعل نعمتك صائنة لماء وجوه خدمتك عن إراقته في غضاضة السؤال. فقال المأمون: والله لا كان ذلك إلا كذلك.

قال: ودخل العتابي على المأمون فقال: يا أبا كلثوم خُبّرت بوفاتك فغمتني ثم جاءتني وفادتك فسرتني. فقال: يا أمير المؤمنين كيف أمدحك أو بماذا أصفك ولا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك! فقال: سلني عما بدا لك. قال: يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة.

قال: وتكلم المأمون يوماً فأحسن فقال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك! إن خضنا في الطب فأنت جالينوس في معرفته، أو في النجم فأنت هرمس في حسابه، أو في الفقه فأنت علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، في علمه، وإن ذكر السخاء كنت حاتماً في جوده، أو الصدق فأنت أبو ذر في صدق لهجته، أو الكرم فأنت كعب بن مامة في إيثاره على نفسه، أو الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه. فاستحسن قوله وتهلل وجهه.

قال: وقال إبراهيم بن المهدي للمأمون: يا أمير المؤمنين ليس للعافي بعد القدرة عليه ذنب، وليس للمعاقب بعد المِلك عذر. قال: صدقت فما حاجتك؟ قال: فلان. قال: هو لك.

قال: وقال الواثق يوماً لأحمد بن أبي دؤاد وقد تضجّر بكثرة حوائجه: قد أخليت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك والمتوصلين إليك! فقال: يا أمير المؤمنين نتائج شكرها متصل بك وذخائر أجرها مكتوب لك وما لي من ذلك إلا عشق الألسن لخلود المدح فيك. فقال: يا أبا عبد الله والله لا منعتك ما يزيد في عشقك وتقوى به منتك إذ كانا لنا دونك. وأمر فأُخرج له ثلاثون ألف دينار يفرقها في الزوار.

قال: وقدم أبو وجزة السلمي على المهلب بن أبي صفرة فقال: أصلح الله الأمير! إني قطعت إليك الدهناء وضربت إليك أكباد الإبل من يثرب. فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو قرابة أو عشرة؟ قال: لا ولكني رأيتك لحاجتي أهلاً فإن قمت بها فأهل ذلك أنت وإن يحل دونها حائل لم أذمم يومك ولم أيأس من غدك. فقال المهلب: يعطى ما في بيت المال. فوجد فيه مائة ألف درهم فدفعت إليه، فأنشأ يقول:

يا من على الجود صاغ الله راحته ... فليس يحسن غير البذل والجود

عمّت عطاياك من بالشرق قاطبةً ... وأنت والجود منحوتان من عُود

قال: ودخل الكوثر بن زفر على يزيد بن المهلب فقال: أصلحك الله! أنت أعظم قدراً من أن يستعان عليك ويستعان بك، لست تفعل من المعروف شيئاً إلا وهو أصغر منك، وليس من العجب أن تفعل ولكن العجب أن لا تفعل. قال: سل حاجتك. قال: تحملت عن قومي عشر ديات وقد نهكتني. قال: قد أمرنا لك بها وأضعفناها بمثلها. فقال الكوثر: إن ما سألتك هو بوجهي لمقبول منك، وأما ما بدأتني به فلا حاجة لي فيه. قال: ولم وقد كفيتك ذل السؤال؟ قال: لأني رأيت الذي أخذته مني بمسألتي إياك أكثر مما نالني من معروفك فكرهت الفضل على نفسي. قال يزيد: فأنا أسألك بحقك عليّ فيما أملتني له من إنزالك إليّ إلا قبلتها. فقبلها.

مساوئ المخاطبات

<<  <   >  >>