وقال يحيى بن خالد البرمكي: ثلاثة أشياء تدلّ على عقول الرجال: الهدية والرسول والكتاب.
[مساوئ الرسول]
وحكي عن الإسكندر أنه وجّه رسولاً إلى بعض ملوك المشرق فجاءه رسوله برسالة فشكّ في حرف منها فقال له الإسكندر: ويحك إن الملوك لا تخلو من مقوّم ومسدّد إذا مالت بطانتها وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ بيّنة العبارة غير أن فيها حرفاً ينقضها، أفعلى يقينٍ أنت من هذا الحرف أو أنت شاكّ فيه؟ فقال الرسول: بل على يقين، قال: فأمر الإسكندر أن تكتب ألفاظه حرفاً حرفاً وتعاد إلى الملك مع رسول آخر فيقرأ عليه ويترجم له، فلما قرأ الكتاب على الملك فمرّ بذلك الحرف أنكره فقال للمترجم: ضع يدي على هذا الحرف، فوضعها، فأمر أن يقطع ذلك الحرف بسكين، فقطع من الكتاب، وكتب إلى الإسكندر: رأس المملكة صحة فطنة الملك وأسّ الملك صدق لهجة رسوله إذ كان عن لسانه ينطق وإلى أذنه يؤدّي، وقد قطعت بسكيني ما لم يكن من كلامي إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلاً، فلما جاء الرسول بهذا إلى الإسكندر دعا الرسول الأول فقال: ما حملك على كلمةٍ أردت بها فساد ملكين؟ فأقر الرسول أن ذاك كان لتقصير رآه من الموجّه إليه، قال الإسكندر: فأراك سعيت لنفسك لا لنا فلما فاتك بعض ما أملت جعلت ذلك ناراً في الأنفس الخطيرة الرفيعة! ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه.
[محاسن الحجاب]
يقال إن ملوك العجم كانت تأخذ أبناءها بأن يعاملوها بما تعامل به عبيدها، وأن لا يدخل أحد من الولد عليها إلا عن إذنها، وأن يكون الحجاب عليهم أغلظ منهم على من دونهم من بطانتها وخدمها لئلا تحملهم الدّالة على تعدّي ميزان الحق، فإنه يقال إن يزدجرد رأى بهرام بموضع لم يكن له فقال له: مررت بالحاجب؟ قال: نعم، قال: وعلم بدخولك؟ قال: نعم، قال: فاخرج إليه فاضربه ثلاثين سوطاً ونحّه عن الستر ووكّل بالحجاب أزاذمرد، ففعل بهرام ذلك وهو إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة، ولم يعلم الحاجب فيم غضب عليه الملك، فلما جاء بهرام بعد ذلك ليدخل دفع أزاذمرد في صدره دفعة أوقذه منها وقال له: إن رأيتك بهذا الموضع ضربتك ستين سوطاً لجنايتك على الحاجب الأول وثلاثين لئلا تطمع في الجناية عليّ، فبلغ ذلك يزدجرد فدعا بازاذمرد فخلع عليه ووصله.
ويقال: إن يزيد بن معاوية كان بينه وبين أبيه باب، فكان إذا أراد الدخول عليه قال لبعض جواريه: انظري هل تحرك أمير المؤمنين، فجاءت الجارية حتى فتحت الباب ومعاوية قاعد في حجره مصحف وبين يديه جارية تصفّح عليه، فأخبرت يزيد بذلك، فجاء يزيد حتى دخل على معاوية، فقال: يا بني إنما جعلت بيني وبينك باباً كما بيني وبين العامة لتدخل عليّ وقت إذنك فهل ترى أحداً يدخل عليّ من ذلك الباب؟ قال: لا، قال: فكذلك إذنك.
وذكروا أن موسى الهادي دخل على المهدي وهو خليفة فزبره الحاجب وقال: إياك أن تعود إلى مثلها إلا بإذن أمير المؤمنين لخاصته.
وذكروا أن المأمون لما اشتد به الوجع سأل بعض بنيه الحاجب أن يدخله عليه ليراه، فقال: لا والله ما لي إلى ذلك سبيل ولكن إن شئت أن تراه من حيث لا يراك فاطّلع عليه من ثقب في ذلك الباب، فجاء حتى اطّلع عليه وتأمله وانصرف.
وحكي عن إيتاخ أنه بصر بالواثق في حياة المعتصم واقفاً في موضع لم يكن له أن يقرب منه ولا أن يقف به فزبره وقال: تنحّ فوالله لولا أني لم أتقدم إليك لضربتك مائة سوط.
وكانت الأعاجم تقول: ما شيء بأضيع للملكة ولا أضيع للرعية من صعوبة الحجاب، ولا شيء أهيب للرعية من سهولة الحجاب، لأن الرعية إذا وثقت من الوالي بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم، وإذا وثقت منه بصعوبة الحجاب هجمت على الظلم وركب القويّ منهم الضعيف، فخير خلال السلطان سهولة الحجاب.
قال: وقال خالد بن عبد الله القسريّ: لا يحجب الوالي إلا لثلاث خصال: إما رجل عيّ فهو يكره أن يعرف الناس منه ذلك، وإما رجل مشتمل على سوءة فهو يكره أن يطّلع الناس على ذلك فيه، وإما رجل يكره مسألة الناس إياه.
قيل: واستأذن أبو سفيان بن حرب على عثمان بن عفان، رحمه الله، فحجبه، فقيل له: حجبك أمير المؤمنين، فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني.