أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه الملوك بني مروان إذ حشدوا
مازلت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في غفلة بالشأم قد رقدوا
حتى ضربتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومةٍ لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
قال: وقال عبد الملك بن مروان للشعبي، لما دخل عليه: جنبني خصالاً أربعاً: لا تطرينّي في وجهي، ولا تجرينّ علي كذبة، ولا تغتابن عندي أحداً، ولا تفشين لي سراً.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود. وأنشد المنقري في ذلك:
النجم أقرب من سرٍ إذا اشتملت ... مني على السر أضلاعٌ وأحشاء
وقال غيره:
ونفسك فاحفظها ولا تفش للورى ... من السر ما يطوي عليه ضميرها
فما يحفظ المكتوم من سر أهله ... إذا عقد الأسرار ضاع كبيرها
من القوم إلا ذو عفافٍ يعينه ... على ذاك منه صدق نفسٍ وخيرها
قال وقال معاوية بن أبي سفيان: أعنت على عليّ، رضي الله عنه، في أربع خصال: كان رجلاً ظهرةً علنةً أي لم يكتم سراً، وكنت كتوماً لأمري، وكان لا يسعى حتى يفاجئه الأمر مفاجأة، وكنت أبادر إلى ذلك، وكان في أخبث جند وأشدهم خلافاً، وكنت في أطوع جند وأقلهم خلافاً، وكنت أحب إلى قريش منه فقلت ما شئت من جامع إلي ومفرق عنه.
وكان يقال لكاتم سره: من كتمانه إحدى خصلتين وفضيلتين الظفر بحاجته والسلامة من شره. من أحسن فليحمد الله وله المنة عليه، ومن أساء فليستغفر الله جل وعز وله الحجة عليه.
وقال بعضهم: كتمانك سرك يعقبك السلامة وإفشاؤك سرك يعقبك التبعة، والصبر على كتمان السر أيسر من الندم على إفشائه.
وقال بعضهم: ما أقبح بالإنسان أن يخاف على ما في يده اللصوص فيخفيه ثم يمكن عدوّه من نفسه بإفشاء سره إليه وإظهار ما في قلبه له أو أن يظهره على سر أخيه، ومن عجز عن تقويم أمره فلا يلومن من لا يستقيم له.
وكان معاوية يقول: ما أفشيت سري إلى أحد إلا أعقبني طول الندم وشدة الأسف، ولا أودعته جوانح صدري فخطمته بين أضلاعي إلا كسّبني ذلك مجداً وذكراً وسناء ورفعة. فقيل له: ولا ابن العاص؟ فقال: ولا ابن العاص. وكان يقول: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تظهر عليه صديقك.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: من كتم سره كانت الخيرة في يده، ومن عرض نفسه للتهمة فلا يلومن من أساء به الظن، وضع أمر أخيك على أحسنه ولا تظنن بكلمة خرجت منه سوءاً إذا كنت واجداً لها في الخير مذهباً، وما كافأت من عصى الله فيك بأكثر من أن تطيع الله جل ذكره فيه، وعليك بإخوان الصدق فإنهم زينة عند الرخاء وعصمة عند البلاء. وحدث إبراهيم بن عيسى قال: ذاكرت المنصور ذات يوم أمر أبي مسلم وصونه لذلك السر حتى فعل ما فعله. فقال:
تقسمني أمران لم أقتحمهما ... بحرصٍ ولم تعركهما لي الكراكر
وما ساور الأحشاء مثل دفينةٍ ... من الهم ردتها إليك المقادر
وقد علمت أفناء عدنان أنني ... لدى ما عرا مقدامةٌ متجاسر
وقال غيره:
صن السر بالكتمان يرضك غبه ... فقد يظهر السر المضيع فيندم
ولا تفشين سراً إلى غير أهله ... فيظهر خرق السر من حيث يكتم
وما زلت في الكتمان حتى كأنني ... برجع جواب السائلي عنك أعجم
لأسلم من قول الوشاة وتسلمي ... سلمت وهل حيٌّ على الناس يسلم؟
ولآخر:
أمني تخاف انتشار الحديث ... وحظي في ستره أوفر
ولو لم أصنه لبقيا عليك ... نظرت لنفسي كما تنظر
ولآخر:
لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نموم لسري مذيع
فلولا الدموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع
ولآخر:
إذا أنت لم تحفظ لنفسك سرها ... فسرك عند الناس أفشى وأضيع
أبو نواس:
لا تفش أسرارك للناس ... وداو أحزانك بالكاس
فإن إبليس على ما به ... أرأف بالناس من الناس