ويقال: إن الأمم كلها، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، لم تخف ملوكها خوفها أردشير من ملوك العجم وعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من ملوك العرب والإسلام، فإن عمر، رضي الله عنه، كان علمه بمن نأى من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه على مهاد، فلم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي أمير ولا عامل إلا وله عليه عين لا يفارقه، فكان أخبار النواحي كلها عنده كل صباح ومساء، حتى إن العامل كان يتوهم على أقرب الخلق إليه وأخصهم به، فساس الرعية سياسة أردشير في الفحص عنها وعن أسرارها، ثم اقتفى معاوية فعله وطلب أثره، فانتظم له أمره وطالت في الملك مدّته.
وكذا كان زياد بن أبي سفيان يحتذي فعل معاوية كاحتذاء معاوية فعل عمر، رحمه الله، في تعرف أمور رعيته وممالكه، وفي ما يُحكى عنه أن رجلاً كلمه في حاجة له فتعرف إليه وهو يظن أنه لا يعرفه فقال: أصلح الله الأمير، أنا فلان بن فلان، فتبسم زياد وقال: أتتعرف إلي وأنا أعرف منك بنفسك؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وجدك وجدتك وأعرف هذا البُرد الذي عليك وهو لفلان! فبهت الرجل وأُرعد حتى كاد يغشى عليه.
وعلى هذا كان عبد الملك بن مروان والحجاج ولم يكن بعد هؤلاء الثلاثة أحد في مثل هذه السياسة حتى ملك المنصور فكان أكبر الأمور عنده معرفة الرجال حتى عرف العدو من الولي والموادع والمسالم من المشاغب فساس الرعية على ذلك، ثم درست هذه السياسة حتى ملك الرشيد فكان أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمراً.
وعلى هذا كان المأمون في أيامه، والدليل على أمر المأمون رسالته إلى إسحاق بن إبراهيم في الفقهاء وأصحاب الحديث وهو بالشام خبّر فيها عن عيب واحد واحدٍ وعن نحلته وعن أموره التي خفيت أو أكثرها على القريب والبعيد، ولم يكن أحد من ذوي السلطان الأعظم أشد فحصاً وبحثاً عن أمور الناس حتى بلغ هذا المبلغ في الاستقصاء وجعله أكبر شُغله وأكثره في ليله ونهاره من إسحاق بن إبراهيم.
حدثني موسى بن صالح بن شيخ قال: كلمته في امرأة من بعض أهلنا وسألته النظر لها فقال: يا أبا محمد من قصة هذا المرأة ومن فعلها، قال: فوالله ما زال يحدثني ويخبرني عن قصتها ويصف أحوالها حتى بُهتّ.
وحدّث أبو البرق الشاعر قال: كان يجري عليّ أرزاقاً فدخلت عليه فقال بعد أن أنشدته: كم عيالك؟ تحتاج في كل شهر من الدقيق إلى كذا ومن الحطب إلى كذا، فأخبرني بشيء من أمر منزلي جهلت بعضه وعلمه كله.
وحدث بعض من كان في ناحتيه قال: رفعت إليه قصة أسأله فيها أجراً وأرزاقاً، فقال: كم عيالك؟ فزدت في العدد، فقال: كذبت، فبهتّ وقلت: يا نفس من أين علم أني كذبت! فأقمت سنة أخرى لا أجسر على كلامه ثم رفعت إليه القصة، فقال: كم عيالك؟ فقلت: كذا، قال: صدقت، ووقع في القصة: يجرى على عياله كذا وكذا.