قال: قال جميل بن بصبهري: إياك أن تصحب السلطان بالجرأة عليه والتقصير في المعرفة بقدره والتهاون بأمره، ولتكن صحبتك له بالحذر وشدة التوقي كما تصحب الأسد الضاري والفيل المغتلم والأفعى القاتلة، ولا تصحب الصديق إلا بالتواضع ولين الجانب، واصحب العدو بالحجة فيما بينك وبينه والإعذار عليه، واصحب العامة بالبر والبشر الحسن. وقد قيل: سبع غشوم خير من والٍ ظلوم.
وحدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: أُتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج وعنده عمر بن عبد العزيز وخالد بن الريان فقال له الوليد: ما تقول في أبي بكر؟ قال: صاحب نبي الله في الغار وثاني اثنين رحمه الله وغفر له. قال: فما تقول: في عمر؟ قال: هو الفاروق رحمه الله وغفر له. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: كان سنياتٍ من خلافته ملازماً للعدل. قال: فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال: لعن الله ذاك. قال: فما تقول في عبد الملك؟ قال: ذلك ابن ذاك لعن الله ذاك. قال: فما تقول فيّ؟ قال: بنيّ ذينك وأنت شرّ الثلاثة. فقال: يا عمر ما تقول فيما تسمع؟ قال: يا أمير المؤمنين ما أحد أعلم بهذا منك وأنت أعلى به عيناً. فألحّ عليه والله لتقولنّ، فقال: أما إذا أبيت يا أمير المؤمنين إلا أن أقول فسبّ إياه كما سب إياك وأن تعفو أقرب للتقوى. قال: ليس إلا هذا. قال: لا يا أمير المؤمنين إلا أن تدخلك جبرية، فأما الحق فليس إلا هذا.
فالتفت إلى خالد بن الريان وهو قائم على رأسه ثم قام وهو غضبان. فقال خالد: والله يا عمر لقد نظر إليّ أمير المؤمنين نظرة ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك. قال: ولو أمرك كنت تفعل؟ قال: إي والله. قال: أما إنه كان يكون شراً لكما وخيراً لي.
ثم سكت عنه وبقي ذلك في قلبه، فلما قام الوليد من مجلسه دخل على امرأته أم البنين بنت عبد العزيز وهي أخت عمر فقال: أخوك الحروري والله لأقتلنه.
فمكث أياماً وعمر في منزله لا يحضر الباب ولا يلتمس المعذرة، فأتاه رسول الوليد وقت القائلة فدعاه، فلما دخل من باب القصر عدل به إلى بيتٍ فأدخل فيه وطيّن عليه الباب. فرجع صاحب دابته إلى أهله فأخبرهم فأخبروا أخته بذلك فبحثت عن خبره فلم تجد أحداً يخبرها بخبره وذلك يوم الثالث. فقيل لها: إن فلاناً الخصي يعلم علمه. فأرسلت إليه فأعلمها بموضعه. فدخلت على الوليد فناشدته الله والرحم وقبّلت يده. فقال: قد وهبته لك إن أدركته حياً قال. ففتحوا عنه الباب فوجدوه قد انثنى عنقه فحملوه إلى منزله وعالجوه.
فلما توفي الوليد وكان سليمان بعده فهلك وتولى عمر الخلافة جاء خالد بن الريان في اليوم الذي استخلف فيه عمر، رحمه الله، متقلداً سيفه، فقال له عمر: يا خالد انطلق بسيفك هذا فضعه في بيتك واقعد فيه فإنه لا حاجة لنا فيك، أنت رجل إذا أُمرت بشيء فعلته لا تنظر لدينك. فلما ولى خالد نظر عمر في قفاه فقال: اللهم يا رب إني قد وضعته لك فلا ترفعه أبداً. فما لبث إلا جمعة حتى ضربه الفالج فقتله.
قال: ولما قالت التغلبية للجحاف بن حكيم في وقعة البشر: فضّ الله عمادك، وأطال سهادك، وسلبك حياتك، فوالله لئن قتلت إلا نساءً كالدمى أو أسافلهنّ دميّ وأعاليهنّ ثديّ. فقال لمن حوله: لولا أن يلد منها حكيم لخليت سبيلها. فبلغ ذلك الحسن البصري فقال: إنما الجحاف جذوة من نار جهنم.
قيل: ولما بنى زياد البيضاء بالبصرة أمر أصحابه أن يسمعوا من أفواه الناس، فأُتي برجلٍ قيل إنه تلا:" أتبنون بكلّ ريعٍ آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ". فقال: ما دعاك إلى هذا؟ قال: آية من كتاب الله عز وجل حضرت. قال: والله لأعلمنّ فيك الآية الثانية: " وإذا بطشتم بطشتم جبارين ". فأمر فبُني عليه ركن من أركان القصر.