وصرنا إليه وقد نزل في ساعته وهو على كرسي يغسل يده، فلما توسطنا الدار جعل منصور يبكي ويمشي إليه حتى دنا منه وهو يسأله عن الحال فيمنعه البكاء من إخباره، فأقصصت عليه قصته فقال: ارجع إلى أمير المؤمنين وسله أن يهبه لي. قلت: ما لي إلى ذلك سبيل ولا يراني إلا والمال معي أو رأس منصور كما أمرني. فقال لخادم له: ائت فلانة فسلها كم لنا عندها من المال. فانصرف وذكر أن عندها خمسة آلاف ألف درهم. فقال لي: احملها وابلغ أمير المؤمنين رسالتي في باقيها. فأعلمته أن لا سبيل إلى حمل بعضها دون بعض. فأطرق ثم رفع رأسه ثم قال: يا غلام ائت دنانير فقل لها تبعث إلي بالجوهر الذي وهبه لها أمير المؤمنين. فبعثت إليه بحقّ فقال: هذا جوهر ابتعناه لأمير المؤمنين بمائتي ألف دينار وهو عارف به وقد جعلته له بمائة ألف دينار وهو ألفا ألف درهم، واحمل إليه هذه السبعة الآلاف الألف والرسالة. فأبيت.
فوجّه إلى الفضل ابنه: إنك كنت أعلمتني أنك على ابتياع ضيعة نفيسة وقد أصبتها ولا يوجد مثلها في كل وقت وابتياعها فرصة فاحمل إلي مالها. فعاد الرسول ومعه ألفا ألف درهم. ووجه إلى جعفر ابنه أن يوجّه إليه بألف ألف درهم. فأنفذ إليه صكاً أو صكاكاً إلى الجهبذ بها. فقبضت المال ووافيت الرشيد قبل المغرب وهو منتصب على حالته ينتظر رجوعي إليه. فأخبرته الخبر فلما انتهيت إلى خبر الحقّة قال: صدق وقد ظننت أنه لا ينجيه غيرهم، احمل هذا المال أجمع إلى أبي عليّ واردده عليه وأعلمه أني قد قبلت ذلك عن منصور ورددته عليه. ففعلت ذلك.
ولقيني بعد ذلك يحيى منصرفاً من الدار ومنصور معه يسايره ويضاحكه والناس خلفه فقلت: والله لأنصحن هذا الشيخ الكريم. فدخلت معه ودخل منصور ودعا بغدائه، فلما نهض منصور قلت: يا أبا علي إني والله ما رجعت معك إلا لنصحك وقد رأيت مكان هذا الرجل منك وكنا حين حملت المال أنهضته معي فوالله ما قطع نصف الصحن من الدار حتى تمثل بهذا البيت:
فما بُقيا علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
فعارض أكرم فعلك بألأم خصلة فيه فدعاني الامتعاض من ذلك إلى إخبارك، فإني من تعلم في مودتك وطاعتك. فأكب على الأرض ساعة ثم رفع رأسه فقال: اعذره فقد كان عقله عزب عنه في ذلك الوقت. قال: فكان عذره له أحسن من إحيائه إياه.
قيل: وأمر الرشيد يحيى بن خالد بحبس رجل جنى جنايةً. فحبسه يحيى وسأله عنه الرشيد فقيل: هو كثير الصلاة والدعاء. فقال للموكل به: اعرض عليه أن يكلمني ويسألني إطلاقه. فقال له ذلك الموكل به فقال: قل لأمير المؤمنين إن كل يوم يمضي من نعمتك ينقص من محنتي والأمر قريب والموعد الصراط والحكم الله. فخرّ الرشيد ساجداً مغشياً عليه وأمر بإطلاقه.
قيل: وأُتي الرشيد برجل قد وجب عليه الحد فأمر أن يضرب فضرب. فقال: يا أمير المؤمنين قتلتني! قال: الحق قتلك. قال: ارحمني! قال: لست بأرحم لك ممن أوجب عليك الحد. ثم أمر بإطلاقه.
قال: وقال الرشيد للجهجاه: أزنديق أنت؟ فقال: كيف أنا زنديق وقد قرأت القرآن وفرضت الفرائض وفرقت بين الحجة والشبهة؟ قال: والله لأضربنك حتى تقرّ! قال: هذا خلاف ما أمر الله جل وعز به، أمر أن يضرب الناس حتى يقرّوا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقر بالكفر! فالتفت الجهجاه إلى أبي يوسف القاضي فقال له: افته لا يهلك فيّ دينه.
قال: وبلغ الرشيد أن عبد الملك بن صالح دعا إلى نفسه فأمر بحبسه ثم دعاه ذات يوم فقال: أكفراً للنعمة وإظهاراً للغدر؟ قال: كلا يا أمير المؤمنين ولكنه مقالة كاشح واحتيال حاسد. قال: هذا قمامة كاتبك يذكر صحة ذلك. قال: أسمعنيه يا أمير المؤمنين! قال: اخرج يا قمامة. وكان من وراء الستر. فخرج فقال له: لقد انطويت عليه وواطيت من خالفه.
قال: يا أمير المؤمنين كيف لا يكذب عليّ من خلفي مَن يبهتني في وجهي مع نعمتي عليه وإحساني إليه؟ قال: فهذا عبد الرحمن ابنك! فقال: هو بين مأمورٍ وعاقٍّ، فإن كان مأموراً فلا ذنب له، وإن كان عاقاً فأقلّ عقوبته الشهادة بالزور عليّ. قال: فما الحكم؟ قال: أولى الناس بصفحك عنه من لا شفيع له إليك إلا حلمك. فقال الرشيد:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد