وقال العباس بن قيس: أُتي الهادي برجل أراد أن يضرب عنقه فقال: يا عدو الله ائتمناك فخنت واستنجدناك فلم تنجدنا، وأعطيناك فلم تشكرنا! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن كلامي وحجتي رد عليك وفيّ أكثر مما قال أمير المؤمنين، وعفوه وإحسانه يأتيان على ذلك. فكأنما كان ناراً صب عليها الماء، فخلى سبيله.
وحكي عن الرشيد في عبد الله بن مالك الخزاعي حين غضب عليه فأمر أهله وحشمه وجميع قراباته أن يتجنبوا كلامه ومعاملته ومعاطاته حتى أثر ذلك في بدنه وتحاماه أقرب الناس إليه من ولد وأهل فلم يدن منه أحد ولم يطف به.
فجاءه محمد بن إبراهيم الهاشمي وكان أحد أودّائه، في جوف الليل، فقال له: إن لك عندي يداً ما أنساها ومعروفاً ما أكفره وقد علمت ما تقدم به أمير المؤمنين في أمرك وها أنا بين يديك ونصب عينيك فمرني بأمرك فوالله لأجعلن نفسي وقاية لك. فقال له عبد الله خيراً وأثنى عليه وأخبره بعذره فيما وجد عليه الرشيد.
فلما دخل عليه قال له: أين كنت في هذه الليلة؟ قال: عبدك يا أمير المؤمنين عبد الله بن مالك كنت عنده وهو يحلف بطلاق نسائه وعتق مماليكه وصدقة ماله مع عشرين بدنة يهديها إلى بيت الله الحرام حافياً راجلاً إن كان ما بلغ أمير المؤمنين سمعه الله جل وعز من عبد الله ولا اطّلع عليه ولا همّ به أو أظهره. قال: فأطرق الرشيد ملياً مفكراً ومحمد يلحظه ووجهه يشرق مرة ويسفر أخرى وكان قد حال لونه حين دخل عليه، ثم رفع رأسه فقال: أحسبه صادقاً يا محمد فمره بالرواح إلى الباب. قال: وأكون معه؟ قال: نعم. فانصرف محمد إلى عبد الله فبشّره وأمره بالركوب رواحاً. فدخلا جميعاً، فلما أبصر عبد الله بالرشيد انحرف نحو القبلة وخرّ ساجداً ثم رفع رأسه، فاستدناه الرشيد فدنا وعيناه تهملان فأكب عليه وقبّل بساطه ورجليه وموطيء قدميه ثم طلب أن يأذن له في الاعتذار. فقال: ما بك حاجة إلى أن تعتذر إذ قد عرفت عذرك.
قال: فكان عبد الله يرى بعد ذلك إذا دخل على الرشيد بعض الانقباض، فشكا ذلك إلى محمد، فقال محمد: يا أمير المؤمنين إن عبدك عبد الله يشكو أثراً باقياً من تلك النبوة التي كانت من أمير المؤمنين ويسأل الزيادة في بسطه. فقال الرشيد: إنا معشر الملوك إذا غضبنا على أحد من بطانتنا ثم رضينا عنه بقي لتلك الغضبة أثر لا يخرجه ليل ولا نهار.
قيل: ومدح شاعر أبا حاتم كاتب الديوان فلم يصله بشيء فأنشأ يقول:
لتُنصفنّي يا أبا حاتم ... أو لأصيرنّ إلى حاكم
أول ما أتلفت من ماله ... خمسين ألفاً في شرى هاشم
خمسين ألفاً وضحاً كلها ... من مال هذا الملك النائم
فاحتفظها صاحب الخبر ورفعها إلى الرشيد فقال: صدق، لولا أني نائم ما كانت أموري تجري على هذا السبيل: وأمر بإخراج الجرائد من الدار إليه. فأول ما وجد على منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم.
فحدّث صالح صاحب المصلّى قال: دعاني الرشيد وهو على كرسي فقال: اذهب الساعة فخذ منصور بن زياد بالخروج من عشرة آلاف ألف درهم فإن لم يوردها بينك وبين المغرب فاضرب عنقه وجئني برأسه وأنا نفيّ من المهدي لئن أنت دافعت عنه لأضربنّ عنقك. قلت: يا سيدي فإن أعطاني بعضها ووقّت لي في بعضها وقتاً؟ قال: لا. فخرجت فأعلمته الخبر فأُسقط في يده وقال: ما أراد إلا قتلي لأنه يعلم أن مقدار مالي لا يبلغ ما به طالبني، ولكن تأذن لي أن أدخل بيتي فأودّع أهلي؟ فأذنت له فدخل ودخلت معه وبقيت واقفاً فبعث إلى أمهات أولاده وبناته ونسائه أن اخرجن إلي كما كنتن تخرجن عند موتي فإن هذا آخر أيامي ولا ستر لكن بعدي. فخرجن إليه مشققات الجيوب مخمّشات الوجوه بصراخ شديد. فبكى إليهن وبكين إليه وبكيت معهن ثم ودعهن وخرج وهنّ في أثره واضعات التراب على رؤوسهن، ثم قال: يا أبا مقاتل لو أذنت لي في المصير إلى أبي عليّ يحيى بن خالد البرمكي فكنت أوصيه بولدي وأهلي؟ فقلت: امض.