قيل: أخذ مصعب بن الزبير رجلاً من أصحاب المختار بن أبي عبيد فأمر بضرب عنقه فقال: أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة فأتعلق بأطرافك وأقول: يا رب سل مصعباً فيم قتلني. فقال: اطلقوه. فقال: أيها الأمير اجعل ما وهبت لي من عمري في خفض. فقال: اعطوه مائة ألف درهم. قال: بأبي أنت وأمي أشهدك أن لابن قيس الرقيات منها النصف لقوله:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الل ... هـ تجلت عن وجهه الظلماء
فضحك مصعب وقال: لقد تلطفت وإن فيك لموضعاً للصنيعة! وأمر له بالمائة الألف ولابن قيس بخمسين ألف درهم.
وذكر عن أبي العباس السفاح أنه غضب على رجل فذكره في ليلة من الليالي فقال له بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين إن فلاناً لو رآه أعدى خلق الله له لرحمه وأُنغض قلبه له. قال: ولم ذلك؟ قال: بغضب أمير المؤمنين عليه. قال: ما له من الذنب ما تبلغ به العقوبة هذا المبلغ! قال: منّ عليه يا أمير المؤمنين برضاك. قال: ما هذا وقت ذاك. قال: يا أمير المؤمنين إنك لما صغّرت ذنبه طمعت له في رضاك. فقال: إنه من لم يكن بين غضبه ورضاه فرجة لم يحسن أن يغضب ولا يرضى، وعلى هذا أخلاق الملوك.
قيل: وحضر صالح المرّيّ مجلس المنصور وعنده نفر من أهل بيته وقد ولي سعيد بن دعلج أحداث البصرة فدعا بنفر من أهل الجنايات ليعاقبهم، فلما أُتي بهم تحرك صالح ليقوم فقال له رجل ممن حضر: أين تقوم؟ والله ما أحتاج إلى جلوسك عنده إلا الساعة. فقال: صدقت. وقال: يا أمير المؤمنين إن الله جل وعز يقول في كتابه: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ". فبكى المنصور حتى اخضلّت لحيته بالدموع وأمر بتخليتهم.
قيل: وأُتي المنصور بجانٍ فأمر فيه بعقوبة غليظة. فقال له العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين إنك غضبت لله جل ذكره فلا تغضب له بأكثر مما غضب لنفسه، وقد تبين لك ما يجب على مثله من الحد. فأمر بإطلاقه.
قال: وحدثنا المدائني قال: كان سهل بن سعد القشيري خرج مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن على المنصور، فقال المنصور: هذا كان عندنا من الفقهاء والعلماء فكيف خرج علينا؟ ثم قال له المنصور: والله لأقتلنك قتلةً ما قتلتها أحداً! فقال: يا أمير المؤمنين أن تحنث في يمينك هذه خير لك عند الله من أن تبرّها، واعلم يا أمير المؤمنين أنك إن قتلتني قتلت أربعة آلاف حديث سمعتها من الضحاك بن مزاحم عن جدك عبد الله بن العباس عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يرويها أحد غيري.
قال: فوضع يده على خدّه وقال: هات. قال: حدثني الضحاك بن مزاحم عن جدك عبد الله بن العباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عمل الجنة حزنٌ بربوة وعمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي شر الفتن، ومن ابتلي فصبر فيا لها ثم يا لها، وما امتلأ عبد غيظاً فكظمه إلا ملأه الله إيماناً. قال: هات. قال: حدثني الضحاك بن مزاحم عن جدك عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله: شرف المؤمن قيامه بالليل وعزلته عن الناس. فأمره بالجلوس ثم قال: هل من أحد يضمنك على أن تلزمنا فتسمر عندنا؟ وأقام معه.
وقيل: إنه سخط المهدي على بعض القحاطبة فقال: لا أراه إلا والسيف مسلول والنطع منشور. فأتي به وقد سل السيف ونشر النطع فبكى فقال: ألك مثل حركتك وتبكي؟ فقال: ما بكيت جزعاً من الموت ولكن بكيت أن ألقى الله وأنت ساخط عليّ. فقال المهدي: يا غلام ادرج النطع واغمد السيف:
إن الكريم إذا خادعته انخدعا
قيل: وعاتب المهدي شبيب بن شيبة في شيء بلغه عنه. فاعتذر إليه وقال: والله لو كان لي ذنب لأقررت ولكن عفو أمير المؤمنين أسرع إلي من براءتي.
وقال موسى بن عبد الله: أُتي موسى برجل فجعل يقرره بذنوبه ويتهدده، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين اعتذاري مما تقرعني به رد عليك وإقراري يوجب لي ذنباً ولكني أقول:
إن كنت ترجو في العقوبة رحمةً ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
فأمر بإطلاقه.