قال له المهدي: تطالبني وأنت المطلوب، وبباطلك تغلب حقي وأنت المغلوب، الآن ظهر فسادك، وبلغ غرسك، ودبّت عقاربك، اللهم إلا أن تقرّ بذنبك وتعترف بجرمك وتتوب إلى ربك وتحقن بالإنابة دمك، فإن فعلت ذلك أمهلنا أمرك وأطلنا حبسك وإلا فاحتسب نفسك ولا تلم إلا جهلك.
قال جعفر: ما لي ذنب فأستغفر ولا جرم فأعترف ولا لي بك قوة فأنتصر، وأنت على ظلمي مقتدر، فإن كنت تعلم أن ما بعد الموت مصدر ولا للعباد بعد البلى محشر ولا للظالم موعد يخاف منه ويحذر فاعمل من هذا ما شئت واستكثر.
قال المهدي: لا والذي بمكة بيته الحرام، وحوله الشعث العاكفون قيام، ما أخشى في إقامة الأحكام عليك وعلى أشباهك إثماً ولا زوراً، فاستسلم للقتل ودع الكلام، فإنه إذا عقر الأساس تداعى النظام، وإذا انكسرت القوس تعطلت السهام، وأنت فطال ما أعنت على إطفاء النور بريح الظلام.
قال جعفر: اعف فإنك كريم جواد سامح، ولا تقبل فيّ قول العدو الكاشح، فإني من الإسلام على الطريق الواضح، رفيق على أهله ولهم ناصح، أبرّ العالمين بفهم راجح، فلا تقدم عليّ بقول كلب نابح، فقتلك إيايّ عمل غير صالح.
قال المهدي: مذهبك واعتقادك تزعم أن الآخرة بعد فراق الساهرة، وأن الناس كانوا أعلاماً زاهرة، وأشجاراً ناضرة، وزروعاً غاضرة، تلبث يسيراً ثم تعود هشيماً، وإن من مات لا يعود كما أن ضوء المصباح إذا طفيء لا يرجع.
قال جعفر: لا والذي يخلق ويبيد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، ما قلت ذلك وهو له شهيد، وإني أخلّص له التوحيد والتفريد والمشية والتحديد، وأشهد أنه الغفور الودود، يعلم منقلب العبيد.
قال المهدي: إن كنت تحب خلاص نفسك ورقبتك فأحضرني كتاب زندقتك الذي بالجهل ألّفته وبالباطل زيّنته وبالضلال زخرفته، سميته أسّ الحكمة وبستان الفلسفة، زعمته مستخرجاً من ديوان الإلهام منظماً بحسن الكلام، عنّفت فيه الإسلام وأضللت فيه الأنام.
فقال جعفر: لا والذي خلق الظلمات والنور، ودبّر الأمور وهو قادر على أن يبعث من في القبور، ما هذا إلا إفك مجترح وزور، وإن ديني لظاهر منير تقديمي ذرية من هو مع الله جل وعز في كل فرض لازم أمام النبيين في البيت المعمور، فاتق الذي خلقك وأمر عبادك قلّدك يعلم خفيات الأمور.
قال المهدي: وأصفح لك عن هذا فما حجتك في كتابك الذي أضلّ أهل الشقاق والنفاق ومن منهم في الأندية والأسواق يقرأونه ويتدارسونه في الآفاق، أما بعد أعلمكم أن الله جل وعز عدل لا يوالي الظالمين ولا يرضى فعال الجاهلين، وأنه ليس لله بوليّ من رضي بأحكام الجائرين، فسيحوا في الأرض حيث لا تنالكم أيدي المعتدين، فإن بني العباس طغاة كفرة، أولياؤهم فسقة وأعوانهم ظلمة، دولتهم شرّ الدول، عجّل الله بوارهم وهدم منارهم والعاقبة للمتقين.
قال جعفر: هذا والله بهتان عظيم جداً قذفني به قاذف عمداً وأنت تعلم أني ما خالفت لكم أمراً ولا غبت منكم أحداً، فاقبل المعذرة وأقل العثرة وتغمد الهفوة واغتفر الزلة فإنك راعٍ مسؤول.
قال المهدي: أولم أُبلَّغ أنك في الغوغاء تحثهم على شق العصا ومخالفة الأمر وتحيدهم عن طاعة الخلفاء، فأي داهية أدهى منك؟ قال جعفر: ما بُلّغت حقاً ولقد طوى النصيحة من أودع قلبك بهتاناً وإفكاً فلا تقبل فيّ قول من ظلم واعتدى وبفسادي إليك سعى، فإن الله جلّ وعز سائله يوم يودّ الظالم يا ليته لم يكن أميراً، ولا كان المضلّ له وزيراً.
قال المهدي: إنك لجاهل أن تقيم اعوجاجك بكثرة احتجاجك، هيهات لا يكدر صفوتي مزاجك، وقد قيل: من ظفر بحية لا يأمن لسعها ثم لم يشدخ رأسها كانت سبب حتفه، ولعمري إن من يكون له عدو مثلك يرقب غرّته وينتظر فورته ولا يطلق يده بقتله لعاجز.
قال جعفر: وما بلغ الله بقدر النملة ونكاية النحلة وإنما يكتفي مثلي من مثلك بلحظة، فالكرماء رحماء بررة، والقسوة في اللئام الشررة. قال المهدي: من تنته أيامه لاحت في الظلام أعلامه وأسرع به أن يذوق حمامه، يا غلام سيفاً قاطعاً وضارباً حاذقاً! قال جعفر: إن كنت تؤمن بالمعاد وتتقي من الحشر يوم التناد، يوم يجمع الله فيه العباد، تعلم أن طالب ثأري لك بالمرصاد، ومن لم يكن له في الموت خير فلا خير له في الحياة، إن قدّمتني أمامك فأنا قاعد لك على الجادة التي ليس عنها مرحل الحاكم يومئذ غيرك.