قال: فسكت المهدي طويلاً ثم التفت إلى أصحابه فقال: كيف أقدم على قتل رجل لا يخاف مكيدتي ولا يرعبه سلطاني ولا يتقي سطوتي وأعواني، يناصبني كلامي ويفسخ احتجاجي، كيف ولو كنا بين يدي من لا يخاف جوره ولا يُتقى ميله وحيفه كان لسانه أمضى وقلبه أجرى وخصمه أذلّ! خلّوا سبيله. فمضى.
وحكي عن عدي بن زيد أنه كان ترجماناً بين كسرى وبين العرب وأنه أشار على كسرى بتولية النعمان بن المنذر الملك، وكان له عبد يُعرف بعديّ بن قيس فوشى إلى النعمان بعديّ بن زيد وذكر أنه كان السبب في تمليكه، فسجنه النعمان وسخط عليه وتغير له وحبسه. فكتب عديّ بن زيد إلى النعمان يستعطفه:
أبا منذرٍ جازيتني الودّ سخطةً ... فماذا جزاء المجرم المتبغّض
وإن جزاء الحرّ منك كرامةٌ ... وليس بنصحٍ فيك بالمتعرّض
فلم يحفل النعمان بقوله. فقال يذكر حبسه:
إن للدهر صولةً فاحذرنها ... لا تبيتنّ قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى صحيحاً فيردى ... ولقد بات آمناً مسرورا
إنما الدهر ليّنٌ ونطوحٌ ... يترك العظم واهناً مكسورا
فسل الناس أين آل قبيسٍ ... طحطح الدهر قبلهم سابورا
خطفته منيّةٌ فتردّى ... وهو في ذاك يأمل التعميرا
ولقد عاش ذا جنودٍ وتاجٍ ... ترهب الأسد صوله والزئيرا
وبنو الأصفر الكرام ملوك ال ... روم لم يبق منهم مذكورا
ثم إن عدياً كتب إلى صاحب له مقيم بباب كسرى يقال له أبيّ:
فأبلغ أبياً على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم
بأن أخاك شقيق الفؤاد ... يكاد لنأيك أن يخترم
لدى ملكٍ موثقٌ بالحدي ... د إما بحقٍّ وإما ظلم
فلا تلفينّ كثير الرق ... د بل اصرم الرأي ثم اعتزم
فلما قرأ هذه الأبيات دخل على كسرى فأخبره بما كان من النعمان إلى عديّ، فغضب كسرى وبعث برجل من مرازبته إلى النعمان أن يطلق عدياً ويبعث به إليه. فأقبل الرسول حتى دخل إلى النعمان وأدّى إليه رسالة كسرى.
فقال: نعم أنا أطلقه. ودسّ إلى عديّ من قتله ثم قال للرسول: ادخل السجن حتى تخرجه. فلما دخل إليه وجده ميتاً، فرجع إلى النعمان وقال له: عجلت عليه وقتلته وأنا مخبر كسرى بذلك. فوصله بألف دينار وسأله تحسين أمره عند كسرى. فانصرف الرسول فأخبر كسرى بموته.
وكان لعديّ ابن يقال له زيد، فخاف النعمان على نفسه فهرب من الحيرة حتى أتى المدائن فدخل على كسرى وتعرّف له فقرّبه وبرّه. فقال لكسرى ذات يوم: أيها الملك إن لعبدك النعمان ابنة يقال لها حرقة وأختاً تسمى سعدى وابنة عم تسمى لباب وليس في جميع الأقاليم أحسن منهنّ. فكتب كسرى إلى النعمان أن احمل إليّ ابنتك حرقة وأختك سعدى وابنة عمك لباب على يدي خادم له. فقال زيد: أيها الملك ابعث بي مع الخصي. فقال: اخرج على اسم الله وعجّل علي بالنسوة. فخرجا حتى قدما الحيرة فدخلا على النعمان ودفعا إليه الكتاب. فلما قرأه قال: أما في عين السواد وفارس ما يغني الملك عن العربيات السود الأبدان الحمش السيقان؟ فقال الخادم لزيد: ما يقول النعمان؟ قال: يقول: ما في بقر فارس والسواد ما يغني الملك عن العربيات؟ فخرج الخادم حتى أتى كسرى فأخبره بما سمعه من النعمان وقال: أيها الملك إن الكلب الذي بعثت بي إليه قد سمن وتعدى طوره. فوقع ذلك في قلب كسرى وغضب على النعمان ودعا إياس بن قبيصة الكنانيّ وولاه مكان النعمان فأمره أن يكبل النعمان بالحديد ويبعث به إليه، فبلغ ذلك النعمان فاستودع أهله وولده وخزائنه وسلاحه وابنته حرقة وخيله عند هانيء بن مسعود المزدلف ثم خرج حتى أتى المدائن فلقي زيد بن عدي فقال له: يا ابن اللخناء لئن بقيت لك لألحقنك بأبيك! فقال له زيد: أما والله بنيت لك عند الملك بنية لا تصلح بعدها أبداً. ثم دخل على كسرى ودخل زيد بعده. فقال زيد: أيها الملك إن هذا العبد إذا جلس على سريره ووضع التاج على رأسه ودعا بشرابه لم يظن أن لك عليه سلطاناً. فأمر كسرى بالنعمان أن يلقى بين أرجل الفيلة، ففُعل به ذلك فداسته الفيله وقتلته، وهيج ذلك حرب ذي قار.