للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وحدث الهيثم بن الخليل الشيعي، وكان موكلاً بحبس البرامكة من قبل هرثمة بن أعين، قال: أتى مسرور الخادم الحبس يوماً ومعه خدم في يد بعضهم منديل ملفوف على شيء، فأمرني بإخراج الفضل بن يحيى، فأخرجته. فقال: إن أمير المؤمنين يقول لك اصدقني وإلا فقد أمرت مسروراً أن يضربك مائتي سوط. فنكس رأسه ساعة. فقال له مسرور: يا أبا العباس الرأي لك أن لا تؤثر مالك على مهجتك فإني لا آمن إن نفّذت ما أمرني به أن آتي عليك، ومع هذا فإن صرت إلى رضى أمير المؤمنين فإن المال يأتيك كما أتاك وإن يك غير ذلك فما حاجتك إلى المال؟ فرفع رأسه وقال: والله يا أبا هاشم ما كذبت أمير المؤمنين ولا كذبتك، لو كانت الدنيا لي ثم خيّرت بين الخروج منها وبين أن أُقرع بمقرعة بسببها لاخترت الخروج منها، وأمير المؤمنين يعلم وأنت تعلم أني كنت أصون عرضي بمالي فكيف أصون الآن نفسي بمالي! فإن كنت أُمرت بشيء فامض له.

فأمرنا بالمنديل فنفض وسقط منه سياط بثمارها، فضربه مائتي سوط، وتولى ضربه الخدم فضربوه أشدّ ضرب ولم يحسنوا أن يضربوه فضربته الحمرة وخيف عليه. فقيل له: هاهنا فتىً كان في الحبس هو بصير هذا. فأتيته فسألته فقال: لعلك تعالج الفضل بن يحيى فقد بلغنا خبره. قلت: نعم. قال: فامض بي إليه. قلت: وتجسر على ذلك؟ قال: نعم والله لو قُطّعت. فجئت به فلما رآه قال: ليس بشيء، ضرب خمسين سوطاً! قلنا: بل ضُرب مائتين! قال: هذا أثر خمسين، وأحتاج أن أنيمه على باريّة وأدوس صدره. فجزع الفضل من ذلك وأبى أن يفعل، فخوفناه تلف نفسه وناشدناه حتى فعل، فأخذ بيده بعض من حضر وأخذت بيده الأخرى ثم جررناه على البارية فإذا عليها صورته من لحم ظهره. فقال: لا بد لي من أن أعيده. فأعاده. ثم اختلف إليه، فبينا هو ينظر إليه يوماً إذ خرّ ساجداً فقلت: ما لك؟ قال: برأ أبو العباس بإذن الله. فدنوت فأراني في ظهره لحماً ناتئاً كهيئة الدعاميص الحمر ثم قال: أتحفظ قولي إنه أثر خمسين سوطاً؟ لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من ذلك، ولكني قلت ما قلت لتقوى نفسه فيعينني على علاجه. وخرج.

وسألني الفضل أن ألقى بعض إخوانه وأعلمه أنه يحتاج إلى عشرة آلاف درهم. فأتيت بعض إخوانه وأعلمته أنه يحتاج إلى عشرة آلاف درهم. فسألني أن أحملها إليه وأمرني بدفعها إلى الرجل الذي عالجه. فلما مضيت بها إليه وجدته غائباً عن منزله ورأيت بابه مغلقاً فملت إلى مسجد هناك منتظراً له حتى عاد فقمت إليه ودخلت منزله فإذا بيت فيه حصيران ومسورتان وطنبور وثلاث دساتيج وقنانيّ وأقداح. فقال: ما حاجتك؟ فأقبلت أعتذر إليه وأذكر حاله ثم أعلمته ما وجهّني له. فنخر نخرةً حتى أفزعني ثم قال: عشرة آلاف! فجهدت الجهد كله به أن يقبلها فأبى، فعدت إلى الفضل فأعلمته. فقال: إنه استقلّها والله! قلت: لا أظن. قال: بلى وإلا فما معنى قوله عشرة آلاف درهم! ولكن تعود إلى صاحبنا وتسأله عشرة آلاف أخرى وتحملها إليه.

فحملتها إلى الرجل فنخر نخرة أشدّ من نخرته الأولى ثم قال: أنا أعالج فتىً من الأبناء بكراء، أنا طبيب! والله والله لو كانت عشرة آلاف دينار ما قبلتها. فخرجت من عنده وسألت عن معيشته فقيل: له برج يصعد إليه في كل يوم فيبيع فراخه وصيده ويعتكف على ما تراه. فرجعت إلى الفضل وأخبرته فتعجب ثم قال: أخبرني بأعجب ما رأيته منا وأحسنه. فاندفعت أحدثه. فلما رأى إطنابي قال: بالله أينا أحسن أفعالاً نحن أم هذا الفتى؟ فإذا هو يستقبح أفعالهم مع فعله ويستصغرها.

قال: ودخل ابن الزيات على الأفشين وهو محبوس مكبل بالحديد فقال:

اصبر لها صبر أقوامٍ نفوسهم ... لا تستريح إلى عقلٍ ولا قود

فقال الأفشين: من صحب الزمان رأى الكرامة والهوان. ثم قال:

لم ينج من خيرها أو شرها أحدٌ ... فاذكر شآبيبها إن كنت من أحد

خاضت بك المنية الحمقاء غمرتها ... فتلك أمواجها ترميك بالزبد

<<  <   >  >>