قيل: وكان رجال من أهل المدينة من فقيه وراوية وشاعر يأتون بغداد فيرجعون بحظوة وحال حسنة، فاجتمع عدة منهم يوماً فقالوا لصديق لهم لم يكن عنده شيء من الآداب: لو أتيت العراق فلعلك كنت تصيب شيئاً. فقال: أنتم أصحاب آداب تلتمسون بها! قالوا: نحن نحتال لك، فجهزوه وقدم بغداد وطلب الاتصال بعلي بن يقطين بن موسى وشكا إليه الحاجة! فقال: ما عندك من الأدب؟ قال: ليس عندي من الآداب شيء غير أني أكذب الكذبة فأخيّل إلى من سمعها أني صادق. وكان ظريفاً مليحاً، فأُعجب به وعرض عليه مالاً فأبى أن يقبله وقال: لست أريد منك إلا أن تسهّل إذني وتدني مجلسي. قال: ذاك لك. فكان من أقرب الناس إليه مجلساً حتى عرف بذلك.
وكان المهدي غضب على رجل من القواد حتى استصفى ماله فكان يختلف إلى علي بن يقطين رجاء أن يكلم له المهدي، وكان يرى قرب المدني منه ومكانه، فأتى المدني القائد عشاء وقال له: ما البشرى؟ فقال: لك البشرى وحكمك، قال: قد أرسلني إليك علي بن يقطين وهو يقرئك السلام ويقول: قد كلمت أمير المؤمنين في أمرك ورضي عنك وأمر برد مالك وضياعك ويأمرك بالغدو عليه لتغدو معه إلى أمير المؤمنين متشكراً، فدعا له الرجل بألف دينار وثياب وكسوة وحملان ودفعها إليه، وغدا على عليّ مع جماعة من وجوه العسكر متشكراً. فقال له عليّ: وما ذاك؟ فقال: أخبرني أبو فلان، وهو إلى جنبه، بكلامك لأمير المؤمنين في أمري ورضاه عني! فالتفت إلى المدني فقال: ما هذا؟ فقال: أصلحك الله! هذا بعض ذلك المتاع نشرناه. فضحك عليّ وقال: عليّ بدابتي، فركب إلى المهدي وحدثه بالحديث فضحك المهدي وقال لعلي: فإنا قد رضينا عن الرجل ورددنا عليه ماله فأجر على المدني رزقاً واسعاً واستوص به خيراً. فأجرى عليه ووصله، وكان يٌعرف بكذّاب الخليفة.
قال: وكتب عبد الملك بن مروان إلى عمر بن محمد صاحب البلقاء أن اخطب عليّ الشقراء بنت شبيب بن عوانة الطائية وهو يومئذ في بادية له ومعه عدة من أصحابه. فأرسل إليه عمر: إن أمير المؤمنين كتب إليّ أن أخطب عليه الشقراء ابنتك فاحضر فارسل إليه. فقال: ما لنا إليكم حاجة، فإن كانت لأمير المؤمنين إلينا حاجة فليأت أو يرسل رسولاً. فقال عمر: سيروا بنا إليه. فسار في جماعة من وجوه البلقاء. قال: فدفعنا إلى أعرابي بفناء خيمته فسلمنا فرد السلام، وتكلم عمر فقال الأعرابي: أرسول أمير المؤمنين أنت؟ قال: نعم، قال: فإنا قد زوجناه على صداق نسائنا مائة من الإبل وما يتبعها من الثياب والخدم. فقلت: نعم. ثم جاءنا بثلاث جفان من كسور خبز ولبن فأكلنا ثم انصرفنا، فكتبت إلى عبد الملك بن مروان فأرسل إليه بمائة من الإبل وعشرة آلاف درهم وما يتبع ذلك من الطيب والخدم والأثاث. فجهزها ثم حملها إلى عبد الملك وما معها من ذلك شيء إلا البعير الذي ركبته ومعها نسوة من بنات عمها. فلما وافت عبد الملك أمر فأُدخلت إلى دار فأقامت أياماً ثم إن عبد الملك بنى بها فكان كثيراً ما يقول: ما رأيت مثل هذه الأعرابية ظرفاً وخلقاً ومنطقاً.
فاشتد ذلك على عاتكة بنت يزيد بن معاوية فأرسلت إلى روح بن زنباع، وكان من أخص الناس بعبد الملك، فقالت: يا أبا زرعة قد علمت رأي أمير المؤمنين معاوية كان فيك ورأي يزيد من بعده وأن أمير المؤمنين قد أعجبه أمر هذه الأعرابية وغلبت على قلبه فشأنك في إفساد ذلك عنده. قال: نعم ونعمة عينٍ. ثم خلا بعبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين كيف ترى الأعرابية؟ قال: قد جمعت ما جمع النساء الحاضرة والبادية. قال: يا أمير المؤمنين إنك من الأعرابية كما قال الأول:
وإذا تسرك من تميم خلةٌ ... فلما يسوءك من تميم أكثر
فقال له: لا تقل ذلك، قال: كأنك بها قد حالت إلى غير ما هي عليه.
فكثر ذلك منه. ثم إن عبد الملك دخل عليها فقال: يا شقراء أعلمت أن روحاً قال لي كذا وكذا؟ قالت: ولم ذاك وحال عشيرتي وعشيرته كما تعلم؟ قال: هو علي ما قلت لك وإن أحببت أسمعتك ذلك منه! فقالت: قد أحببت.