فأمرها أن تجلس خلف الستر وأرسل إلى روح، فلما دخل عليه قال: هيه يا أبا زرعة والله لقد وقع كلامك مني موقعاً! قال: نعم يا أمير المؤمنين إن الأعرابية تنتكث كانتكاث الحبل ثم لا تدري ما أنت عليه منها. فعجّلت ورفعت الستر وقالت: أنت فلا حياك الله ولا وصل رحمك قد كان يبلغني هذا عنك فما كنت أصدق! فوثب روح وقال: يا هذه إن هذا أرسل إليّ فأعلمني أنك خلف الستر وعزم عليّ أن أتكلم بهذا فلم أجد بداً من أبرّ عزيمته، وأما أنت فلا يسوءك الله! قالت: صدق والله ابن عمي وأنت الذي حملته على ما قال. فقال عبد الملك: ويلك يا شقراء ألا تقبلي منه! قالت: هو عندي أصدق منك. وجعل روح يقول وهو مولٍّ: هو والله الحق كما أقول. فخرج ووقع الكلام بينهما.
وقال خالد بن صفوان: دخلت على أبي العباس وهو خالي المجلس فقلت: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تأمر بحفظ الستر لألقي إليك شيئاً أنصحك به أو قال فيه. فأمر بذلك. فقلت: يا أمير المؤمنين فكّرت في هذا الأمر الذي ساقه الله إليك ومنّ به عليك فرأيتك أبعد الناس من لذّاته وأتعب الخلق فيه؟ قال: وكيف ذاك يا خالد؟ قلت: باقتصارك من الدنيا على امرأة واحدة وتركك البيضاء المشتهاة لبياضها والخضرة التي تراد لخضرتها والسمينة المشتهاة لوطائها وذكرت الرشيقة الرخيمة والجعدة السبطة، فقال: يا خالد هذا أمر ما مرّ بسمعي! فاستأذن في الانصراف فأذن له.
وخرجت إليه أم سلمة وهو ينكت بالقلم على دواة بين يديه، فقالت: يا أمير المؤمنين أراك مفكراً، أنتقض عليك عدو؟ قال: كلا ولكن كلام ألقاه إلي خالد بن صفوان فيه نصيحتي. وشرح ذلك لها. قالت: فما قلت لابن الزانية؟ قال: ينصحني وتشتمينه! فقامت عنه وبعثت إلى مائة من مواليها فقالت: لهذا اليوم اتخذتكم وأعددتكم! امضوا إلى خالد بن صفوان فحيث وجدتم خالداً فاهووا إلى أعضائه عضواً عضواً فرضّوها. فطلبت ومررت بقوم أحدّثهم إذ أقبل القوم فدخلت في جملتهم ولجأت إلى دار ووقعت البغلة فرضّوها بالأعمدة وبقيت لا تظلني سماء ولا تقلني أرض.
فإني جالس ذات يوم إذ هجم عليّ قوم فقالوا: أجب أمير المؤمنين. فقمت ولا أملك من نفسي شيئاً حتى دخلت عليه وهو في ذلك المجلس وأنا أسمع حركة من وراء الستر فقلت أم سلمة والله. فقال: يا خالد من أين تُرى؟ قلت: كنت في غلة لي. ثم قال: الكلام الذي كنت ألقيته إليّ في بعض الأيام أعده عليّ. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، إن العرب اشتقت اسم الضر من اسم الضرتين، وإن الضرائر شر الذخائر، والإماء آفة المنازل، ولم يجمع رجل بين امرأتين إلا كان بين جمرتين تحرقه واحدة بنارها وتلحقها أخرى بشرارها. قال: ليس هذا هو! قلت: بلى. قال: ففكر. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأخبرتك أن الثلاث إذا اجتمعن كن كالأثافي المحرقة، وأن الأربع يتغايرن فلا يصبرن ويتعالين فلا يهوين، وإن أُعطين لم يرضين. قال: لا والله ما هو هذا. قلت: يا أمير المؤمنين وأخبرتك أن الأربع همّ ونصب وضجر وصخب إنما صاحبهن بين حاجة تطلب وبلية تترقب، إن خلا بواحدة منهن خاف شر الباقيات، وإن آثرها كن له أعدى من الحيات، وأخبرتك أن الجواري رجال لا خصى لهن وخرقٌ لا حياة معهن. قال: لا والله ما هو هذا! قلت: بلى إن بني مخزوم ريحانة العرب وكنانة بيت قريش، وعندك ريحانة الرياحين وسيدة نساء العالمين، وحدثتني أنك تهم بالتزوج فقلت لك هيهات تضرب في حديد بارد ليس ذلك بكائن آخر الزمان المعاين! قال: ويلك أتستعمل الكذب؟ قلت: فمع السيوف لعب! قال: فاذهب فإنك أكذب العرب، قلت: فأيهما أصلح، أكذب أم تقتلني أم سلمة؟ فاستلقى ضاحكاً وقال: اخرج قبحك الله! وارتفع الضحك من وراء الستر وانصرفت إلى منزلي فإذا خادم لأم سلمة ومعه خمس بدر وخمسة تخوت وقال: الزم ما سمعناه منك.