فأحضره، فأدخله إلى بعض مجالسه وقال: ابن لي بإزائه طاقاً يكون شبيهاً بالبيت. فلم يزل يُؤتى بالجص والآجر حتى بناه وجوّده، ونظر إليه واستحسنه فقال للمسيب: اعطه أجره. فأعطاه خمسة دراهم فاستكثرها وقال: لا أرضى بذلك، فلم يزل حتى نقصه درهماً، ففرح بذلك وابتهج كأنه أصاب مالاً.
وحكي عن المنصور أنه لُدغ فدعا مولىً يقال له أسلم رقاءً فأمره أن يرقيه فرقّاه فبريء، فأمر له برغيف، فأخذ الرغيف فثقبه وصيره في عنقه وجعل يقول: رقّيت مولاي فبريء فأمر لي برغيف! فبلغ المنصور ذلك فقال: لم آمرك أن تشنّع عليّ! قال: لم أشنّع إنما أخبرت بما أمرت. فأمر أن يصفع ثلاثة أيام في كل يوم ثلاث صفعات.
وعن الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجريّ ذات يوم على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين أتنقض عليّ فمي وأنتم أهل بيت بركة؟ فلو أذنت يل لقبّلت رأسك لعل الله يشد فمي. فقال المنصور: اختر ذلك أو الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين أهون عليّ من ذهاب درهم الجائزة أن لا يبقى في فمي حاكّة.
ومنه مكاتبات: كتب أرسطاطاليس إلى رجل في رجل يصله بشيء فلم يفعل فكتب إليه: إن كنت أردت فلم تقدر فمعذور، وإن كنت قدرت فلم ترد فسيأتيك يوم تريد فيه فلا تقدر.
قيل: وكتب إبراهيم بن سيابة إلى رجل صديق له كثير المال يستسلفه، فكتب إليه: العيال كثير والدخل قليل والمال مكذوب. فكتب إليه: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً فجعلك الله معذوراً.
قال: وكتب بعضهم يصف رجلاً: أما بعد فإنك كتبت تسأل عن فلان فكأنك هممت أو حدثت نفسك بالقدوم عليه فلا تفعل، امتع الله بك، فإن حسن الظن به لا يقع في الوهم إلا بخذلان الله، وإن الطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا بسوء التوكل على الله، وإن الرجاء لما يده لا ينبغي إلا بعد اليأس من رحمة الله، إنه يرى الإقتار الذي نهى الله عنه هو التبذير الذي يعاقب الله عليه، والاقتصاد الذي أمر الله عز وجل به هو الإسراف الذي يعذب الله عز وجل عليه، وإن بني إسرائيل لم يستبدلوا العدس بالمن والبصل بالسلوى إلا لفضل أحلامهم وقديم علم تدارسوه من آبائهم، وإن الصنيعة مرفوعة والصلة موضوعة والهمة مكروهة والصدقة منحوسة والتوسع ضلالة والجود فسوق والسخاء من همزات الشياطين، وإن مؤاساة الرجل أخاه من الذنوب الموبقة وإفضاله عليه من إحدى الكبائر، وإن الله عز وجل لا يغفر أن يؤثر المرء في خصاصة على نفسه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن آثر على نفسه فقد ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، كأنه لم يسمع بالمعروف إلا في الجاهلية الذين قطع الله أدبارهم ونهى جل اسمه عن اتباع آثارهم، وإن الرجفة لم تأخذ أهل مدين إلا لسخاء كان فيهم، وإن الريح العقيم أهلكت عاداً وثموداً لتوسعٍ كان فيهم، وهو يخشى العقاب على الإنفاق ويرجو الثواب على الإقتار ويعد نفسه العقوق ويأمرها بالبخل خيفة أن تمر به قوارع الدهور وأن يصيبه ما أصاب القرون الأولى، فأقم، رحمك الله، بمكانك واصبر على عسرك لعل الله أن يبدلنا خيراً منه زكاةً وأقرب رحماً.
ومنه فن آخر، وصف أعرابي رجلاً فقال له: بشر مُطمع ومطل موئس، فأنت منه أبداً بني اليأس والطمع، لا منع مريح ولا بذل سريح.
وقال أعرابي: أنا من فلان في أماني تهبط العصم وخلف يذكر العدم، ولست بالحريص الذي إذا وعده الكذوب أعلق نفسه لديه وأتعب راحلته إليه.
وذكر أعرابي رجلاً فقال: له مواعيد عواقبها المطل وثمارها الخلف ومحصولها اليأس.
ويقال: سرعة اليأس أحد النجحين.
وقال بعضهم: مواعيد فلان مواعيد عرقوب، ولمع الآل، وبرق الخلّب، وأماني الكمّون، ونار الحباحب، وصلفٌ تحته راعدة.
ولبعض الكتاب فصل في هذا المعنى: أما بعد فإن كثرة المواعيد من غير نجح عار على المطلوب، وقلتها عند الحاجة مكرمة من صاحبها، وقد رددتنا في حاجتنا هذه مع كثرة مواعيدك من غير نجح لها حتى كأن قد رضينا بالتعلل بها دون النجاح، كقول الأول:
لا تجعلنا ككمّون بمزرعةٍ ... إن فاته الماء أروته المواعيد