ورأى أعرابي رجلاً ظلوماً يدعو فقال: يا هذا إنما يستجاب لمظلوم أو مؤمنٍ ولست أحداً منهما، أراك تخفّ عليك الذنوب وتحسن عندك مقابح العيوب.
وذم أعرابي رجلاً فقال: فلان لا يستحيي من الشر ولا يحب أنه أحب الخبر، ولا يكون في موضع إلا حرمت فيه الصلاة، ولو قذف لؤمه على الليل طمس نجومه، ولو أفلتت كلمة سوء لم تصر إلا إليه.
وسأل أعرابي رجلاً فقال: لقد نزلت بوادٍ غير ممطور وبرجل بك غير مسرور، فارتحل بندم أو أقم بعدم.
وذم آخر رجلاً فقال: ما كان عنده فائدة ولا عائدة ولا رأي جميل ولا إكرام الدخيل.
وقيل لأعرابي: ما بلغ من سوء خلقك؟ قال: تبدو لي الحاجة إلى الجار أو الصاحب في بعض الليل فأصبح غضبان عليه أقول كيف لم يعلمها؟ وذكر أنه تنافر رجلان من بني أسد إلى هرم بن سنان المرّيّ في الشرّ وعنده الحطيئة فقال أحدهما: إني بقيت زماناً وأنا أرى أني شر الناس وألأمهم حتى أتاني هذا فزعم أنه شر مني، فقال هرم: أخبراني عنكما. فقال أحدهما: لم يمر بي أحد قط إلا اغتبته ولا ائتمنني إلا خنته ولا سألني إلا منعته.
وقال الآخر: أما أنا فأبطر الناس في الرخاء وأجبنهم في اللقاء وأقلهم حياء وأمنعهم خباء. فقال هرم: وأبيكما لقد ترددتما في الشر ولكن أخبركما بمن هو شر منكما! قالا: ما ولدت ذاك النساء! قال: بلى، هذا الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه ومن أعطاه ومن أحسن إليه، فقال لأبيه:
لحاك الله ثم لحاك حقاً ... أباً ولحاك من عمّ وخال
فبئس الشيخ أنت على النوادي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي ... وأبواب المخازي والضلال
وقال لأمه:
تنحّي فاقعدي مني بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتحدثينا
ألم أوضح لك البغضاء مني ... ولكن لا إخالك تعلمينا
وقال لنفسه:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بشرٍّ فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه ... فقُبّح من وجهٍ وقبح حامله
وقال لمن أعطاه:
سألتُ فلم تبخل ولم تُعطِ نائلاً ... فسيّان لا ذمٌ عليك ولا حمد
قيل: ولما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص. فقال:
الشعر صعبٌ وطويلٌ سلّمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه ... والشعر لا يسطيعه من يظلمه
يريد أن يعربه فيعجمه
فقيل له: أوص للمساكين بشيء. فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا فإنها تجارة لن تبور. قيل: أوص فقد حضرك أمرك. فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث. قيل له: إن الله عز وجل لم يأمر بهذا! قال: لكني آمر به. فقيل له: اعتق غلامك يساراً الأسود. قال: هو مملوك ما دام على ظهر الأرض عبسيّ. قيل له: من أشعر الناس؟ فقال: هذا المِحجن ما أطمع في خير، وأومأ إلى لسانه ثم جعل يبكي. فقيل له: ما يبكيك، أجزعاً من الموت يا أبا مليكة؟ قال: لا ولكن ويل للشعر من رواية السوء! ثم قال: أبلغوا الشمّاخ أنه أشعر غطفان على وجه الأرض، وإن متّ فاحملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قط. وفي غير هذه الرواية أنه قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قط لعلي أن أنجو، ثم أنشأ يقول:
لكل جديدٍ لذةٌ غير أنني ... رأيت جديد الموت غير لذيذ
له نكهةٌ ليست بطعم سفرجلٍ ... ولا طعم تفّاحٍ ولا بنبيذ
ثم خرجت روحه، فلما مات قال فيه الشاعر:
لا شاعرٌ ألأم من حطيه ... هجا بنيه وهجا المريه
من لؤمه مات على فريّه