قيل في المثل: هو أجبن من هجرس، وهو القرد، وذلك أنه لا ينام إلا في يده حجر مخافة أن يأكله الذئب. وحدثنا رجل بمكة قال: إذا كان الليل رأيت القرود تجتمع في موضع واحد ثم تبيت مستطيلة واحداً في إثر واحد في يد كل واحد منها حجر لئلا ترقد فيأتيها الذئب فيأكلها، فإن نام واحد وسقط الحجر من يده فزعت فتحول الآخر فصار قدّامها فلا تزال كذلك طول الليل فتصبح وقد صارت من الموضع الذي باتت فيه على ثلاثة أميال وأقل وأكثر جبناً.
وقيل أيضاً: هو أجبن من صافر، وهو طائر يتعلق برجليه وينكس رأسه ثم يصفر ليلته كلها خوفاً من أن ينام فيؤخذ. ويقال أيضاً: إن الصافر هو الذي يصفر لريبة. وذكروا أن رجلاً كان يأتي امرأة وهي جالسة مع بنيها وزوجها فيصفر لها فتقوم وتُخرج عجزها من وراء الباب وهي تحدث ولدها فتقضي حاجتها وحاجته وينصرف. فعلم بذلك بعض بنيها فغاب عنها يومها ثم جاء في ذلك الوقت وصفر ومعه مسمار محمىً، فلما جاءت لعادتها كواها به، فجاء الرجل بعد ذلك فصفر فقالت: قد قلينا صفيركم، فضربه الكميت مثلاً في قوله:
أرجو لكم أن تكونوا في مودتكم ... كلباً كورهاء تقلي كلّ صفار
لما أجابت صفيراً كان يألفها ... من قابسٍ شيّط الوجعاء بالنار
وقيل أيضاً: هو أجبن من المنزوف ضرطاً، وكان من جبنه أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل فتزوجت واحدة منهن برجل كان ينام إلى الضحى فإذا أتينه بصبوحه قلن له: قم فاصطبح، فيقول: لو لعادية تنبهنني، فقلن: هذه نواصي الخيل. فجعل يقول: الخيل الخيل! ويضرط حتى مات، فضرب به المثل.
قيل: وخرج رهم بن خشرم الهلالي ومعه أهله وماله يريد النُّقلة من بلد إلى بلد، فلقيه قوم من بني تغلب فدهش ورعب رعباً شديداً فقال: يا بني تغلب شأنكم المال وخلّوا عن الظعينة. فقالوا: رضينا إن ألقيت الرمح. فرجع إليه عقله وقال: أومعي رمح! وحمل عليهم فقتل منهم رجلاً ثم صرع آخر وأنشأ يقول:
ردّا على آخرها الأتاليا ... إن لها بالمشرفي حاذيا
ذكرتني الطّعن وكنت ناسيا
فانهزم الباقون ونجا هو بالمال والظعينة ومرّ نحو وطنه سالماً.
قيل: وكان في بني ليث رجل جبان فخرج رهطه وبلغ ذلك ناساً من بني سُليم كانوا أعداءهم فلم يشعر الرجل إلا بخيل قد أحاطت بهم فذهب يفرّ فلم يجد مفراً ووجدهم قد أخذوا عليه كل وجه، فلما رأى ذلك جلس ثم أبرز كنانته وأخذ قوسه وقال:
ما علّتي وأنا جلدٌ عابل ... والقوس من نبعٍ لها بلابل
يرنّ فيها وترٌ عنابل ... إن لا أقاتلكم فأمّي هابل
أكُلّ يومٍ أنا عنكم ناكل ... لا أطعن القوم ولا أقاتل
الموت حقٌّ والحياة باطل
فقاتلهم فانهزموا فصار بعد ذلك أشجع قومه.
قيل: وخرج أبو دلامة مع روح بن حاتم إلى بعض الحروب، فلما التقى الجمعان قال أبو دلامة لروح: أصلح الله الأمير! لو أن تحتي فرساً من خيلك وفي وسطي ألف دينار لأشجيت أعداءك نجدة وإقداماً. فقال روح: ادفعوا إليه ذلك. فدفع إليه فلما أخذه أنشأ يقول:
إني أعوذ بروحٍ أن يقدمني ... إلى القتال فيشقى بي بنو أسدٍ
إن المهلب حبَّ الموت أورثكم ... ولم أرث نجدةً في الموت من أحد
فأجابه روح:
هون عليك فلن أريدك في الوغى ... لتطاعنٍ وتنازلٍ وضراب
كن آخراً في القوم تنظر واقفاً ... فإن انهزمت مشيت في الهراب
فأجابه أبو دلامة:
هذي السيوف رأيتها مشهورةً ... فتركتها ومضيت في الهرّاب
ماذا تقول لما يجيء ولا يرى ... من بادرات الموت من نشّاب
فضحك روح فأعفاه وانصرف.