قيل: واستأذن الحسن بن علي، رضي الله عنه، على معاوية وعنده عبد الله ابن جعفر وعمرو بن العاص، فأذن له، فلما أقبل قال عمرو: قد جاءكم الأفَهّ العييّ الذي كان بين لحييه عبلة. فقال عبد الله بن جعفر: مه فوالله لقد رمت صخرة ململمة تنحطّ عنها السيول وتقصر دونها الوعول ولا تبلغها السهام، فإياك والحسن إياك، فإنك لا تزال راتعاً في لحم رجل من قريش ولقد رميت فما برح سهمك وقدحت فما أورى زندك. فسمع الحسن الكلام، فلما أخذ الناس مجالسهم قال: يا معاوية لا يزال عندك عبدٌ راتعاً في لحوم الناس، أما والله لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور وتحرّج منه الصدور، ثم أنشأ يقول:
أتأمر يا معاويَ عبد سهمٍ ... بشتمي والملا منا شهود
إذا أخذت مجالسها قريشٌ ... فقد علمت قريشٌ ما تريد
قصدت إليّ تشتمني سفاهاً ... لضغنٍ ما يزول وما يبيد
فما لك من أبٍ كأبي تسامي ... به من قد تسامي أو تكيد
ولا جدٌّ كجدي يا ابن هندٍ ... رسول الله إن ذكر الجدود
ولا أمٌ كأمي من قريشٍ ... إذا ما يحصل الحسب التليد
فما مثلي تُهُكِّم يا ابن هندٍ ... ولا مثلي تجاريه العبيد
فمهلاً لا تهج منا أموراً ... يشيب لها معاوية الوليد
وذكروا أن عمرو بن العاص قال لمعاوية ذات يوم: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يخطب على المنبر فلعله يحصر فيكون ذلك مما نعيّره به، فبعث إليه معاوية فأصعد المنبر وقد جمع له الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس من عرفني فأنا الذي يُعرف ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب بن عم النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أنا ابن البشير النذير السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين وسخطاً على الكافرين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس، أنا ابن المستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة ونصر بالرعب من مسيرة شهر. فافتنّ في هذا الكلام ولم يزل حتى أظلمت الدنيا على معاوية، فقال: يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك. فقال الحسن: إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمل بطاعة الله، وليس الخليفة من دان بالجور وعطّل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذاك ملك أصاب مُلكاً يُمتَّع به قليلاً وكان قد انقطع عنه واستعجل لذّته وبقيت عليه تبعته فكان كما قال الله جل وعز: وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حين، ثم انصرف، فقال معاوية لعمرو: والله ما أردت إلا هتكي! ما كان أهل الشام يرون أن أحداً مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا.