قال ثمامة: جلس المأمون يوماً وقد حضر الناس فأمر عليّ بن صالح بإدخال إسماعيل بن موسى فغلط وأدخل إسماعيل بن جعفر، وكان المأمون من أشدّ الناس له بغضاً فرفع يده إلى السماء فقال: اللهم ابدلني بعليّ بن صالح مطيعاً ناصحاً فإنه بصداقته لهذا آثر هواه على هواي، فلما دنا قبّل يده، فقال: هات حوائجك، فقال: ضيعتي بالفتنة قُهرتها وغُصبت عليها، فأمر بردها عليه ثم قال: اذكر حاجتك، فقال: دينٌ كثير قد لحقني في جفوة أمير المؤمنين إياي، فأمر بقضاء دينه، وقال: حاجتك؟ قال: يأذن لي أمير المؤمنين في الحج؟ قال: قد أذنّا لك، وحاجتك أيضاً؟ قال: وقف أبي كان في يدي فأُخرج عني، قال: يردّ عليك إن رضي ورثة أبيك، ثم قال: الذي أمكننا في أمرك قد جدنا به ووقف أبيك إلى ورثته، ثم قال لعلي بن صالح: يا عبد الله ما لي ولك! متى رأيتني أنشط لإسماعيل بن جعفر وهو صاحبي بالأمس بالبصرة؟ قال: يا أمير المؤمنين ذهب عني إسماعيل بن موسى، قال: ذهب عنك ما كان يجب عليك حفظه وحفظت ما كان يجب أن لا تحفظه، فأما إذ أخطأت فلا تُعلم إسماعيل بن جعفر القصة، فظن أنه عنى إسماعيل بن موسى فأخبر إسماعيل بن جعفر حرفاً حرفاً فأذاعها إسماعيل وبلغ المأمون فقال: الحمد لله الذي وهب لي هذه الأخلاق التي أحتمل عليها علي بن صالح وأبا عمران الطوسيّ وحميد بن عبد الحميد ومنصور بن النعمان.
وحدثنا مسعود بن بشر عن ابن داحة قال: خرج إلينا يعقوب بن داود من عند المهدي ونحن على بابه فقال: ما صدر هذا البيت:
ومحترسٍ من مثله وهو حارس
فإن أمير المؤمنين سأل عنه فلم يكن عند أحد منهم جواب. فقلت: أنا أخبرك، قال البردخت الشاعر، والبردخت الفارغ بالفارسية:
أقلي عليك يا اللوم يا أم مالك ... وذمي زماناً ساد فيه الفلافس
كساعٍ إلى السلطان ليس بناصح ... ومحترس من مثله وهو حارس
الفلافس من بني نهشل بن دارم كوفيّ وكان على شرطة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وقال الأشهب بن رميلة النهشلي:
يا حار يا ابن أبي ربيعة إنه ... يزني إذا اختلط الظلام ويشرب
جعل الفلافس حاجبين لبابه ... سبحان من جعل الفلافس يحجب
فدعا به الحارث وقال: قد علمت أنه كذّب عليك ولكن لا حاجة لي فيك فاخرج عني، وقال الشاعر في مثله:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى تلين قليلا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
وقال آخر:
سأترك باباً أنت تملك إذنه ... وإن كنت أعمى عن جميع المسالك
فلولا كنت بوّاب الجنان تركتها ... وحوّلت رجلي مسرعاً نحو مالك
وكتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف:
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم
متى ينجح الغادي لديك بحاجةٍ ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
وكتب رجل إلى عبد الله بن طاهر:
إذا كان الجواد له حجابٌ ... فما فضل الجواد على البخيل
فأجابه:
إذا كان الجواد قليل مالٍ ... ولم يقدر تعلّل بالحجاب
وكتب عبد الله بن محمد بن أبي عيينة إلى صديق له:
أتيتك زائراً لقضاء حقٍّ ... فحال الستر دونك والحجاب
ولست بساقطٍ في قدر قومٍ ... وإن كرهوا كما يقع الذباب
وقال آخر:
وأحضر باب إبراهيم جهلاً ... بما فيه وأرشو الحاجبين
فأخرج إن خرجت بغير شيءٍ ... وأدخل إن دخلت بدرهمين
وقال آخر:
يدلّ على أنه كاتب ... سوادٌ بأظفاره راتب
فإن كان هذا دليلاً له ... فإسكافنا كاتبٌ حاسب
حجابٌ شديدٌ لأبوابه وليس لباب استه حاجب
وقال آخر:
لقلع ضرسٍ وضنك حبسٍ ... ونزع نفسٍ وردُّ أمس
وأكل كفٍّ وضيق خفٍّ ... وفقد إلفٍ وإلف فلس
وقود قردٍ ونسج بردٍ ... ودبغ جلدٍ بغير شمس
وشرب سمٍ وقتل عمٍ ... وكلُّ غمٍ ويوم نحس
ونفخ نارٍ وحمل عارٍ ... وبيع جارٍ بربع فلس