للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فإنا سنشبع أضيافنا ... ونأتي المطيَّ فنعتامها

قيل: ونزل على حاتم ضيف ولم يحضره قرىً فنحر ناقة الضيف وعشّاه وغدّاه ثم قال له: إنك أقرضتني ناقتك فغديتك بها فاحتكم عليّ، قال: راحلتين، قال: لك عشرون أرضيت؟ قال: نعم وفوق الرضى، قال: فلك أربعون، ثم قال لمن بحضرته من قومه: من أتانا بناقة فله ناقتان بعد الغارة، فأتوه بأربعين فدفعها إلى ضيفه.

وحكوا عن حاتم أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجةً، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الإسار، قال: ويلك والله ما أنا في بلادي وما معي شيء وقد أسأت أن توهمت بي! فذهب إلى العنزيّين فساومهم به واشتراه منهم وقال: خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي فداه، ففعلوا، فأتاهم بفدائه.

وقيل في المثل: هو أجود من كعب بن مامة، وكان من إياد، وبلغ من جوده أنه خرج في ركب وفيهم رجل من أهل النمر بن قاسط في شهر ناجرٍ، والنجر العطش، فضلوا وتصافنوا ماءهم فجعل النمري يشرب نصيبه فإذا أصاب كعباً نصيبه قال: اعط أخاك يصطبح، فيؤثره على نفسه، حتى أضر به العطش، فلما رأى ذلك استحث راحلته وبادر حتى رفعت له أعلام الماء وقيل له: رد كعب فإنك وارد، فغلبه العطش فمات ونجا رفيقه.

وقيل في المثل: هو أسمح من لافظة، وهي العنز تُستدعى للحلب فتجيء إليه وهي تلفظ بجرّتها فرحاً بالحلب، وقال الشاعر:

يداك يدٌ خيرها يرتجى ... وأخرى لأعدائها غائظه

فأما التي خيرها يرتجى ... فأجود جوداً من اللافظه

وأما التي شرها يتقى ... فنفس العدوّ بها فائظه

قيل: وخرج معاوية بن أبي سفيان ذات يوم فقام إليه رجل فقال: قد أمّلتك لمهمٍ فما عوضي من ذلك؟ قال: إبلاغك أمنيتك فتمنّ، قال: ألف دينار، قال: هي لك ومثلها استظهاراً لبقاء النعمة عليك.

وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بني إن ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم، وكان يقول لولده: لا تتكلوا على ما سبق من فعلي وافعلوا ما ينسب إليّ، ثم قال متمثلاً:

إنما المجد ما بنى والد الصد ... ق وأحيا فعاله المولود

ويقول: ابتداء الفضل يدٌ موفورة والبذل بعد الطلب يدٌ مقبوضة.

فأما صلات الخلفاء وسخاؤهم فإنه حدثنا هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي قال: حدثني علي بن صالح قال: كنت يوماً على رأس الهادي وأنا غلام وقد جفا المظالم ثلاثة أيام عاقر العقار فيها، فدخل عليه الحرانيّ فقال: يا أمير المؤمنين إن العامة لا تقاد، أو قال: لا تنقاد لما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام، فالتفت إليّ فقال: يا علي ائذن للناس عليّ بالجفلى لا بالنقرى، فخرجت من عنده وأنا أطير على وجهي لا أدري ما قال لي، فقلت: أرجع فأسأله عما قال فيقول تحجبني ولا تعلم كلامي؟ ثم أدركني ذهني فبعثت إلى أعرابي كان وفد علينا فسألته عن الجفلى والنقرى، فقال: الجفلى جفالة الرجال والنقرى ترتيبهم، فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت فدخل الناس على بكرة أبيهم فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوض المجلس قلت: يا أمير المؤمنين كلمتني بكلام لم أعرفه فبعثت إلى أعرابي كان عندي ففسره لي وفهمني فكافه عني يا أمير المؤمنين، فقال: نعم مائة ألف درهم تحمل إليه، فقلت: يا أمير المؤمنين أعرابي جلفٌ وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه! فقال: ويحك أجود وتبخل؟

<<  <   >  >>