وماذا يَضُرُّ عبدَ الغَنِيِّ المَقدِسِيَّ من ثَورَةِ العَامَّة عليه؟؟ فكَمَا لم يَضُرَّ ابنَ جَريرٍ قيامُ الحَنَابِلَة عليه، ورَدمُهم دَارَهُ بالحِجَارة، ولم يَضُرَّ عبدَ الله بنَ مُحمَّد بن عُثمان السَّقَّاء أن هاج عليه العَامَّةُ وهو يُحَدِّثُ بحديثِ الطَّير، ولم يَضُرَّ الخطيبَ أنَّهم طيَّنُوا عليه بابَ دَارِه ليَحُولُوا بينه وبين شُهُودِ الجَمَاعَة، فإنَّ قِيَام العَامَّة على عبدِ الغَنِيِّ لا يَضرُّه، ولا يَضُرُّ كتاب العُقَيليِّ أيضًا.
ثُمَّ هب أنَّ أبا حَنِيفَة كان ثِقَةً في الحديث، فإيراد العُقَيليِّ له في "الضُّعفاء" يتَّفقُ مع ما اشتَرَطُوه من أنَّهُم قد يَذكُرُون الرَّجُل لأدنَى جَرحٍ فيه وإن لم يَضُرَّه، فكيف إذا كان الجَرحُ يَضُرُّه؟
والذي يَنبَغِي أن يُعتَقَد، ولا يَجُوزُ غيرُهُ، أنَّه من المُحال أن يَجتَمِع العُلماء على جَرحِ عَدلٍ، أو تَعدِيلِ مجرُوحٍ. والجائِزُ، بل الوَاقِعُ، أنَّهُم يَختَلِفُون في تَوثِيقِ راوٍ أو جَرحِه. فوَضَعَ العلماءُ لذلك ضَوَابِطَ كُلِّيَّةً، قد يتخلَّف بَعضُها بسَبَب القَرائِن التي تَظهَرُ للنَّاقد.
فإذا نَظَرتَ إلى كُتب العُلَماء، كأَصحاب الصِّحاح والسُّنَن والمسانِيد، وجدتَها خاليةً من رِواياتِ أبي حنيفة، إلَّا بقدرٍ ضئيلٍ جدًّا، حتى أنَّنِي لا أذكر أنَّ أحمَد، مع اتِّساع مُسنده، روى لأبي حنيفة حديثًا، إلَّا حدِثيًا واحدًا - ولم يُسمِّه -، بل قال فيه:"أبو فُلان"، فاستفهمه ولَدُهُ: أهو أبو حنيفة؟ قال:"نعم".
فعُلماء الجَرح والتَّعديل مُختلِفون في شأن أبي حنيفة رحمهُ الله. فهُناك مَن وَثَّقه بإطلاقٍ، وهُناكَ مَن جَرَحَهُ بإطلاقٍ، وهُناك مَن تَوسَّط في أمره.