وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الضَّرُورَةَ.
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حِينَ دَخَلَ الرَّيَّ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ لِمَا قُلْنَا.
قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسَطَ دَارِهِ مَسْجِدًا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فِيهِ) يَعْنِي لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُورَثُ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقُّ الْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِجَوَانِبِهِ كَانَ لَهُ حَقُّ الْمَنْعِ فَلَمْ يَصِرْ مَسْجِدًا، وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يُوهَبُ) اعْتَبَرَهُ مَسْجِدًا، وَهَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَصِيرُ مَسْجِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِكَوْنِهِ مَسْجِدًا وَلَا يَصِيرُ مَسْجِدًا إلَّا بِالطَّرِيقِ دَخَلَ فِيهِ الطَّرِيقُ وَصَارَ مُسْتَحَقًّا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ.
قَالَ (وَمَنْ اتَّخَذَ أَرْضَهُ مَسْجِدًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَلَا يَبِيعَهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ) لِأَنَّهُ تَجَرَّدَ عَنْ حَقِّ الْعِبَادِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا أَسْقَطَ الْعَبْدُ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحَقِّ رَجَعَ إلَى أَصْلِهِ فَانْقَطَعَ تَصَرُّفُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الْإِعْتَاقِ.
فَاقْتَضَى ذَلِكَ خُلُوصَ الْمَسَاجِدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْعِبَادِ فِي أَسْفَلِهِ أَوْ فِي أَعْلَاهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْخُلُوصُ (قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ جَوَّزَ فِي الْوَجْهَيْنِ) يَعْنِي فِيمَا إذَا كَانَ تَحْتَهُ سِرْدَابٌ أَوْ فَوْقَهُ بَيْتٌ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَجَازَ ذَلِكَ كُلَّهُ: أَيْ مَا تَحْتَهُ سِرْدَابٌ وَفَوْقَهُ بَيْتٌ مُسْتَغَلٌّ أَوْ دَكَاكِينُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَ مُحَمَّدٍ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَمْ يَقُلْ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مَعَ أَنَّ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ مِنْهُمَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ لِيَتَهَيَّأَ لَهُ مَا ذُكِرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ دُخُولٍ مَخْصُوصٍ فِي مِصْرٍ مَخْصُوصٍ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ زِيَادَةَ التَّعْمِيمِ بِلَفْظِ الْكُلِّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلُهُ لِمَا قُلْنَا يَعْنِي مِنْ الضَّرُورَةِ.
قَالَ (وَكَذَلِكَ إنْ اتَّخَذَ وَسْطَ دَارِهِ مَسْجِدًا) وَسْطَ بِالسُّكُونِ لِأَنَّهُ اسْمٌ مُبْهَمٌ لِدَاخِلِ صَحْنِ الدَّارِ لَا لِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ بَيْنَ طَرَفَيْ الصَّحْنِ وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ أَبْقَى الطَّرِيقَ لِنَفْسِهِ) فَلَمْ يَخْلُصْ لِلَّهِ تَعَالَى، حَتَّى لَوْ عُزِلَ بَابُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute