وَالثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ هُوَ الْحَبْسُ الدَّائِمُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ، أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ، وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ إلَّا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ، وَلَوْ جَوَّزْنَاهُ فِي الْمُشَاعِ يَفُوتُ الدَّوَامُ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُهَايَأَةِ فَيَصِيرُ كَمَا إذَا قَالَ رَهَنْتُك يَوْمًا وَيَوْمًا لَا، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا، بِخِلَافِ الْهِبَةِ حَيْثُ يَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ فِي الْهِبَةِ غَرَامَةُ الْقِسْمَةِ وَهُوَ فِيمَا يُقَسَّمُ، أَمَّا حُكْمُ الْهِبَةِ الْمِلْكُ وَالْمُشَاعُ يَقْبَلُهُ، وَهَا هُنَا الْحُكْمُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَالْمُشَاعُ لَا يَقْبَلُهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ شَرِيكِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ حُكْمُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَسْكُنُ يَوْمًا بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَيَوْمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَهَنَ يَوْمًا وَيَوْمًا لَا
وَالشُّيُوعُ الطَّارِئُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَقَاءِ أَسْهَلُ مِنْ حُكْمِ الِابْتِدَاءِ فَأَشْبَهَ الْهِبَةَ
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الِامْتِنَاعَ لِعَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا يَرْجِعُ إلَيْهِ، فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِي بَابِ النِّكَاحِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ؛ لِأَنَّ الْمُشَاعَ يَقْبَلُ حُكْمَهَا وَهُوَ الْمِلْكُ، وَاعْتِبَارُ الْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ لِنَفْيِ الْغَرَامَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِهِ
قَوْله تَعَالَى ﴿فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ الِاسْتِيثَاقُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ: يَعْنِي مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ وَلِيَكُونَ عَاجِزًا عَنْ الِانْتِفَاعِ فَيَتَسَارَعَ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ
لِحَاجَتِهِ
أَوْ لِضَجَرِهِ (وَكُلُّ ذَلِكَ) أَيْ كُلُّ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ لَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْبُوضًا بِالنَّصِّ أَوْ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ (يَتَعَلَّقُ بِالدَّوَامِ) أَمَّا تَعَلُّقُهُ بِالدَّوَامِ بِالنَّظَرِ إلَى الْمَقْصُودِ فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ رُبَّمَا جَحَدَ الرَّهْنَ وَالدَّيْنَ جَمِيعًا فَيَفُوتُ الِاسْتِيثَاقُ. وَأَمَّا بِالنَّظَرِ إلَى النَّصِّ فَلِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْقَبْضُ ابْتِدَاءً وَجَبَ بَقَاءً، لِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحَلِّ فَالِابْتِدَاءُ وَالْبَقَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَحْرَمِيَّة فِي النِّكَاحِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ عِنْدَنَا ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ يَقْتَضِي الدَّوَامَ فَكَانَ دَوَامُ الْحَبْسِ لَازِمًا بِحُكْمِ الرَّهْنِ وَيَفُوتُ فِي الْمُشَاعِ، وَالدَّاعِي إلَى هَذَا التَّوْجِيهِ تَخْلِيصُ الْكَلَامِ عَنْ التَّكْرَارِ فَإِنَّهُ قَالَ: أَحَدُهُمَا يَنْبَنِي عَلَى حُكْمِ الرَّهْنِ، وَالثَّانِي عَلَى مُوجَبِ الرَّهْنِ فَلَوْ كَانَ الْمُوجَبُ مُفَسَّرًا بِالْحُكْمِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ تَكَرَّرَ كَلَامُهُ وَقَوْلُهُ (وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ) أَيْ إلَى دَوَامِ الْحَبْسِ مِنْ تَمَامِ الدَّلِيلِ: يَعْنِي ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الدَّوَامِ، وَلَا يُفْضِي إلَيْهِ إلَّا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ وَلَا اسْتِحْقَاقَ لِلْحَبْسِ فِي الْمُشَاعِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمُهَايَأَةِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ رَهَنْتُك يَوْمًا دُونَ يَوْمٍ، وَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ لِلْحَبْسِ سِوَى يَوْمٍ فَيَفُوتُ الدَّوَامُ الْوَاجِبُ تَحَقُّقُهُ (وَلِهَذَا) أَيْ وَلِأَنَّ الدَّوَامَ يَفُوتُ فِي الْمُشَاعِ تَسَاوَى مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُهَا فِي الرَّهْنِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ (وَقَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ) أَيْ الرَّهْنُ (مِنْ شَرِيكِهِ) عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ حُكْمَهُ. وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي فَلِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ دَوَامُ الْحَبْسِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَصُورَةُ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ أَنْ يَرْهَنَ الْجَمِيعَ ثُمَّ يَتَفَاسَخَا فِي الْبَعْضِ، أَوْ أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْعَدْلِ أَنْ يَبِيعَ الرَّهْنَ كَيْفَ شَاءَ فَبَاعَ نِصْفَهُ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ بَقَاءَ الرَّهْنِ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute