عود مهاجري الحبشة- الغرانيق العلا- تمسك المستشرقين بقصتها- أسانيدهم في ذلك- ضعف هذه الأسانيد- القصة ظاهرة الكذب بنفيها التمحيص العلمي.
[عود مهاجري الحبشة]
أقام المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة ثلاثة أشهر أسلم أثناءها عمر بن الخطاب. وعلم هؤلاء المهاجرون ما حدث على أثر إسلامه من رجوع قريش عن إيذائها محمدا ومن اتبعه، فعاد كثير منهم في رواية، وعادوا كلّهم في رواية أخرى إلى مكة. فلما بلغوها رأوا قريشا عادت إلى إيذاء المسلمين وإلى الإمعان في عداوتهم أشدّ مما عرف هؤلاء المهاجرون من قبل، فعاد إلى الحبشة من عاد، ودخل مكة من دخل مستخفيا أو بجوار. ويقال: إن اللذين عادوا استصحبوا معهم عددا آخر من المسلمين أقاموا بالحبشة إلى ما بعد الهجرة وإلى حين استتباب الأمر للمسلمين بالمدينة.
أيّ داع حفز مسلمي الحبشة إلى العودة بعد ثلاثة أشهر من مقامهم بها؟ هنا يرد حديث الغرانيق الذي أورده ابن سعد في طبقاته الكبرى والطبري في تاريخ الرسل والملوك، كما أورده كثيرون من المفسرين المسلمين وكتاب السيرة، والذي أخذ به جماعة من المستشرقين ووقفوا يؤيدونه طويلا. وحديث الغرانيق أن محمدا لمّا رأى تجنب قريش إيّاه وأذاهم أصحابه تمنى فقال: ليته لا ينزل عليّ شيء ينفرهم مني، وقارب قومه ودنا منهم ودنوا منه فجلس يوما في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى:(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى)«١» ) فقرأ بعد ذلك: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ثم مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها. وهنالك سجد القوم جميعا لم يتخلّف منهم أحد. وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبيّ، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أمّا إذا جعلت لها نصيبا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم. وفشا أمر ذلك في الناس حتى بلغ الحبشة؛ فقال المسلمون بها: عشائرنا أحبّ إلينا، وخرجوا راجعين. فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم، فقالوا: ذكر آلهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم ارتدّ عنها فعاد