للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتفضيلا للمال عليه، وخروجا على النظام الروحي الذي نزل به القرآن، وارتدادا بذلك عن الإسلام، فكانت حروب الردّة التي ثبّت بها أبو بكر رسالة الإسلام كاملة، والتي بقيت فخرا على الأيام.

[المال والحرص عليه]

واعتبار الزكاة والصدقة فرضا متصلا بالإيمان، يجعلهما بعض النظام الروحي الذي يجب أن ينتظم حضارة العالم. وهذا أسمى ما تبلغ إليه الحكمة وما يكفل للناس سعادتهم. فالمال والحرص عليه والإستكثار منه واتخاذه وسيلة لاستعلاء الإنسان على الإنسان، كان ولا يزال سببا لشقاء العالم ومصدرا للثورات والحروب فيه. وعبادة المال كانت ولا تزال سبب التدهور الخلقي الذي أصاب العالم، والذي لا يزال العالم يرزح تحت أعبائه. والاستكثار من المال والحرص عليه هو الذي قضى على الإخاء الإنساني، وجعل الناس بعضهم لبعض عدوّا. ولو أنهم كانوا أصح نظرا وأسمى تفكيرا، لرأوا الإخاء أدعى للسعادة من المال، ولرأوا بذل المال للمحتاج أكبر جاها عند الله والناس من إذلال الناس لهذا المال. ولو أنهم آمنوا بالله حقّا لتاخوا فيما بينهم، ولكان أدنى مظاهر تاخيهم إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، ومحو الشقاء عمّن تجرّ المتربة ويجرّ الفقر عليهم هذا الشقاء. وإذا كانت بعض الدول السامية الحضارة، في وقتنا الحاضر، تقيم شعوبها المستشفيات والمنشات الخيرية لإيواء البائس، والبرّ بالمحروم، ورعاية الفقير، باسم الشفقة والإنسانية، فإن إقامة هذه المنشات بدافع الإخاء والتحابّ في الله والشكر له على نعمته أسمى في الفكرة وأدعى إلى سعادة الناس جميعا. قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) «١» .

[الحج]

هذا الإخاء الإنساني يزيد الناس بعضهم لبعض محبة. وليس يجوز في الإسلام أن تقف هذه المحبة عند حدود وطن بالذات، ولا أن تنتهي إلى حدود قارّة من القارّات، بل يجب ألا تعرف حدودا البتّة.

لذلك يجب أن يتعارف الناس من أطراف الأرض جميعا، ليزداد بعضهم لبعض في الله محبة، ولتزيدهم محبتهم هذه بالله إيمانا. ووسيلة ذلك أن يجتمعوا من أطراف الأرض في صعيد واحد. وخير مكان يجتمعون فيه، إنما هو المكان الذي انبثق فيه نور هذه المحبة، وهذا المكان هو بيت الله بمكة؛ وهذا هو الحج. والمؤمنون إذ يجتمعون فيه وإذ يؤدون شعائره، يجب أن تكون حياتهم مثلا أثناءه ساميا للإيمان بالله وإخلاص القصد في التوجه إليه. يقول تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) «٢» .

في هذا الصعيد الذي يحج المؤمنون إليه ليتعارفوا، وليرتبطوا بأقوى روابط الإخاء فيزيدهم إخاؤهم إيمانا، يجب أن تسقط كل الفوارق وألا يكون بين هؤلاء المؤمنين جميعا تفاوت ما، ويجب أن يشعروا بأنهم جميعا أمام الله سواسية، وأن يتوجهوا إليه بقلوبهم مستجيبين لدعوته، مؤمنين بوحدانيته، شاكرين لنعمته. وأيّة نعمة أكبر من نعمة الإيمان به جلّ شأنه مصدر كل خير ونعمة! أمام نور هذا الإيمان تنقشع أوهام الحياة، ويزول باطل غرورها من مال وبنين وجاه وسلطان. وبفضل نوره يصل الإنسان إلى إدراك ما في الوجود من حق وخير وجمال، وما يجري عليه الكون من سنن الله الخالدة لا تحويل لها ولا تبديل. وهذا الاجتماع العام


(١) سورة القصص آية ٧٧.
(٢) سورة البقرة آية ١٩٧.

<<  <   >  >>