رمضان عاد إلى خديجة وبه من أثر التفكير ما يجعلها تسائله تريد أن تطمئنّ إلى أنه بخير وعافية.
أفكان محمد يتعبّد أثناء تحنثه ذاك على شرع بذاته؟ هذا أمر اختلف العلماء فيه. وقد روى ابن كثير في تاريخه طرفا من آرائهم في الشرع الذي كان يتعبّد عليه: فقيل شرع نوح، وقيل إبراهيم، وقيل موسى، وقيل عيسى، وقيل كل ما سبقه، فهو الذي يتّفق وما شغف محمد به من التأمل ومن التفكير على أساس هذا التأمل..
[الرؤيا الصادقة]
وكان إذا استدار العام وجاء شهر رمضان ذهب إلى حراء وعاد إلى تفكيره ينضجه شيئا فشيئا وتزداد نفسه به امتلاء. وبعد سنوات شغلت أثناءها هذه الحقائق العليا نفسه، صار يرى في نومه الرؤيا الصادقة تنبلج أثناءها أمام باصرته أنوار الحقيقة التي ينشد، ويرى معها باطل الحياة وغرور زخرفها. إذ ذاك آمن أن قومه قد ضلوا سبيل الهدى، وأن حياتهم الروحيّة قد أفسدها الخضوع لأوهام الأصنام وما إليها من عقائد متصلة بها ليست دونها ضلالا وليس فيما يذكر اليهود وما يذكر النصارى ما ينقذ قومه من ضلالهم. ففيما يذكر هؤلاء وأولئك حقّ؛ لكن فيه كذلك ألوانا من الوهم، وصورا من الوثنية، لا يمكن أن تتفق مع الحق المجرّد البسيط الذي لا يعرف كل هذه المضاربات الجدلية العقيمة مما يمعن فيه هؤلاء وأولئك من أهل الكتاب. وهذا الحق هو الله خالق الكون لا إله إلا هو. وهذا الحق هو أن الله رب العالمين. هو الرحمن الرحيم. وهذا الحق هو أن الناس مجزيون بأعمالهم. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)«١» ، وأن الجنة حقّ والنار حق، وأن الذين يعبدون من دون الله إلها آخر لهم جهنم، وساءت مستقرّا ومقاما.
وشارف محمد الأربعين، وذهب إلى حراء يتحنث وقد امتلأت نفسه إيمانا بما رأى في رؤاه الصادقة، وقد خلصت نفسه من الباطل كله، وقد أدّبه ربه فأحسن تأديبه، وقد اتجه بقلبه إلى الصراط المستقيم وإلى الحقيقة الخالدة، وقد اتجه إلى الله بكل روحه أن يهدي قومه بعد أن ضربوا في تيهاء الضلال. وهو في توجّهه هذا يقوم ويرهف ذهنه وقلبه، ويطيل الصوم، وتثور به تأملاته، فينحدر من الغار إلى طرق الصحراء، ثم يعود إلى خلوته ليعود فيمتحن ما يدور بذهنه وما يتبين له في رؤاه. ولقد طالت به الحال ستة أشهر، حتى خشي على نفسه عاقبة أمره، فأسرّ بمخاوفه إلى خديجة وأظهرها على ما يرى، وأنه يخاف عبث الجن به. فطمأنته الزوج المخلصة الوفيّة، وجعلت تحدثه بأنه الأمين، وبأن الجن لا يمكن أن تقترب منه، وإن لم يدر بخاطرها ولا بخاطره أن الله يهيئ مصطفاه بهذه الرياضة الروحية إلى اليوم العظيم، وإلى النبأ العظيم، يوم الوحي الأول، ويهيئه بها إلى البعث والرسالة.
[أول الوحي (سنة ٦١٠ م)]
وفيما هو نائم بالغار يوما جاءه ملك وفي يده صحيفة، فقال له: اقرأ. فأجاب مأخوذا: ما أقرا! فأحس كأن الملك يخنقه ثم يرسله ويقول له: اقرأ. قال محمد: ما أقرأ! فأحس كأن الملك يخنقه كرّة أخرى، ثم يرسله ويقول: اقرأ. قال محمد- وقد خاف أن يخنق مرّة أخرى- ماذا أقرأ؟! قال الملك: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ