به؛ فنشره وأخذ الحجر فوضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كلّ قبيلة بطرف من أطراف هذا الثوب؛ فحملوه جميعا إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء، ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وبذلك انحسم الخلاف وانفضّ الشرّ. وأتمّت قريش بناء الكعبة حتى جعلت ارتفاعها ثماني عشرة ذراعا، ورفعوا بابها عن الأرض ليدخلوا من شاؤا ويمنعوا من شاؤا. وجعلوا في داخلها ست دعائم في صفّين، وجعلوا في ركنها الشامي من داخلها درجا يصعد به إلى سطحها. ووضع هبل في داخل الكعبة، كما وضعت في داخلها النفائس التي تعرضت من قبل بنائها وسقفها لمطامع اللصوص.
اختلف في سن محمد حين بناء الكعبة وحين حكمه بين قريش في أمر الحجر، فقيل: كان ابن خمس وعشرين، وقال ابن إسحاق: كان ابن خمس وثلاثين. وسواء أصبحت الأولى أم الآخرى من هاتين الروايتين فإن إسراع قريش إلى الرضا بحكمه أوّل ما دخل من باب الصفا، وتصرفه هو في أخذ الحجر ووضعه على الثوب وأخذه من الثوب لوضعه مكانه من جدار الكعبة، يدلّ على ما كان له من مكانة سامية في نفوس أهل مكة ومن تقدير جمّ لما عرف عنه من سمّو النفس ونزاهة القصد.
[انحلال السلطة في مكة وأثره]
وهذا الخلاف بين القبائل، وهذا التحالف بين لعقة الدم، وهذا الاحتكام لأوّل مقبل من باب الصفا، يدلّ على أن السلطة في مكة كانت انحلّت، فلم يبق لرجل منها ما كان لقصيّ ولا لهاشم ولا لعبد المطلب من سلطان. ولقد كان لتنازع بني هاشم وبني أميّة السلطان بعد وفاة عبد المطلب أثره في ذلك لا ريب. وكان الانحلال في السلطة جديرا بأن يجرّ على مكة الأذى، لولا ما كان لبيتها العتيق في نفوس العرب جميعا من تقديس. وأدّى انحلال السلطان إلى نتيجته الطبيعية؛ أدّى إلى مزيد من حرية الناس في التفكير والجهر بالرأي، وإلى إقدام اليهود والنصارى، ممن كانوا يخافون صاحب السلطان، على تعيير العرب عبادة الأوثان.
وانتهى ذلك بكثير من أهل مكة ومن القرشيين أنفسهم إلى أن زال من نفوسهم تقديس الأصنام، وإن ظلّ أمجاد مكة وسادتها يظهرون لها التقديس والعبادة. ولهؤلاء من العذر ما للذين يرون في الدين القائم وسيلة من وسائل ضبط النظام وعدم تبلبل الأفكار، وفي عبادة الأصنام بالكعبة ما يحفظ على مكة مكانتها الدينية والتجارية. وقد ظلّت مكة بالفعل تنعم من وراء هذه المكانة بالرخاء واتصال التجارة، لكن ذلك لم يغير من زوال تقديس الأصنام في نفوس المكيّين.
[بدء انحلال الوثنية]
ذكروا أن قريشا اجتمعت يوما بنخلة تحيي عيد العزّى، فخلص منهم أربعة نجيّا، هم زيد بن عمرو، وعثمان بن الحويرث، وعبيد الله بن جحش وورقة بن نوفل؛ فقال بعضهم لبعض:«تعلموا والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال. فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضرّ ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور! يا قوم التمسوا لكم دينا غير هذا الدين الذي أنتم عليه» . أمّا ورقة فدخل النّصرانية، وقيل: إنه نقل إلى العربية بعض ما في الأناجيل. وأمّا عبيد الله بن جحش فظلّ فيما هو فيه من الالتباس حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة، وهناك دخل في النصرانية ومات عليها، وأقامت امرأته أم حبيبة بنت أبي سفيان على الإسلام حتى صارت من أزواج النبيّ أمهات المؤمنين. وأمّا زيد بن عمرو ففر من وجه زوجه ومن عمّه الخطاب، وطوّف في الشام وفي العراق ثم عاد ولم يدخل في يهودية ولا نصرانية، وفارق دين قومه واعتزل الأوثان، وكان يقول وهو مستند إلى الكعبة: «اللهم لو أني أعلم أيّ الوجوه أحبّ إليك لعبدتك به، ولكني