الخطاب وبيد أبي عبيدة بن الجرّاح وهو جالس بينهما. هنالك كثر اللغط وارتفعت الأصوات وخيف الاختلاف؛ فنادى عمر بصوته الجهوريّ: أبسط يدك يا أبا بكر. فبسط أبو بكر يده فبايعه وهو يقول:«ألم يأمرك النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين! فأنت خليفته؛ ونحن نبايعك فنبايع خير من أحبّ رسول الله منا جميعا» . ومست هذه الكلمات قلوب الحاضرين من المسلمين أن كانت معبّرة حقّا عما ظهر من إرادة النبي حتى هذا اليوم الأخير الذي رآه الناس فيه؛ فقضى ذلك على ما بينهم من خلاف، وأقبلوا فبايع المهاجرون ثم بايع الأنصار.
وإذ كان الغد من ذلك اليوم، جلس أبو بكر على المنبر، وتقدّم ابن الخطاب فتكلّم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«إنّي قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله ولا كانت عهدا عهده إليّ رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبّر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا. وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله. فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه له. وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه» . فبايع الناس أبا بكر البيعة العامّة بعد بيعة السقيفة.
[خطاب أول الخلفاء الراشدين]
وقام أبو بكر بعد أن تمّت البيعة فألقى في الناس هذا الخطاب الذي يعتبر آية من آيات الحكمة وفصل الخطاب. قال رضي الله عنه بعد أن حمد الله وأثنى عليه:«أما بعد، أيها الناس، قد وليت عليكم ولست بخيركم. فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة. والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله. والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذلّ، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء أطيعوني ما أطعت الله ورسوله. فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله» .
[أين يدفن جثمان الرسول؟]
وبينما المسلمون يختلفون ثم يتفقون على بيعة أبي بكر بيعة السقيفة ثم البيعة العامّة، كان جثمان النبي حيث كان على سرير موته يحيط به الأقربون من أهله. فلما تمّت البيعة لأبي بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله كي يدفنوه. وقد اختلفوا فيما بينهم أين يدفن. قال جماعة من المهاجرين: يدفن في مكة مسقط رأسه وبين أهله. وقال غيرهم: بل يدفن في بيت المقدس حيث دفن الأنبياء قبله. وما أدري كيف قال أصحاب هذا الرأي، وبيت المقدس كان ما يزال بأيدي الروم، وكان بين الروم والمسلمين عداوة منذ مؤتة وتبوك حتى جهز رسول الله جيش أسامة للثأر. ولم يرض المسلمون هذا الرأي ولا هم رضوا أن يدفن النبيّ بمكة، ورأوا أن يدفن بالمدينة التي آوته ونصرته والتي استظلت قبل غيرها بلواء الإسلام. وتحدثوا أين يدفن؟ قال فريق منهم:
يدفن بالمسجد حيث كان يخطب الناس ويعظهم ويصلي بهم؛ ورأى هؤلاء أن يدفن حيث يقوم المنبر أو إلى جانبه. لكن هذا الرأي لم يلبث أن رفض؛ لما روي عن عائشة أن النبيّ كان عليه رداء أسود حين اشد به وجعه، فكان يضعه مرّة على وجهه ويكشفه عنه مرة وهو يقول: قاتل الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد! ثم قضى أبو بكر بين الناس إذ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول ما قبض نبيّ إلا دفن حيث يقبض. ثم تقرر أن يحفر له مكان الفراش الذي قبض فوقه.