للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإخاء، وما يجعلك تسائل: ما بال المسلمين والنصارى إذا ظلوا على القرون خصوما متقاتلين؟ والجواب عن سؤالك أنّ بين الإسلام والنصرانية خلافا على مسائل أساسية كانت موضع جدل شديد في عهد النبيّ، وأن لم يتعدّ الأمر الجدل إلى العداوة والبغضاء. فالنصرانية لا تقرّ بنبوّة محمد كما يقرّ الاسلام بنبوّة عيسى، والنصرانية تقول بالتثليث، والإسلام ينكر كل ما سوى التوحيد أشد الإنكار. والنصارى يؤلهون عيسى ويتلمّسون الدليل على ألوهيته في أنّه تكلّم في المهد وأوتي من المعجزات ما لم يؤته غيره مما هو عمل الخالق جلّ شأنه. وهم كانوا أيّام الإسلام الأولى يحاجون المسلمين في ذلك بالقرآن ويقولون: أو ليس يقرّ القرآن الذي نزل على محمد رأينا حين يقول: (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) «١» .

فالقرآن قد ذكر إذا أنّه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيرا، ويخبر بالغيب، وكل هذه خصائص إلهيّة. هذا رأي نصارى عهد النبي الذين كانوا يحاجونه ويجادلونه ويذهبون إلى عيسى إله مع الله. ولقد ذهبت طائفة منهم إلى تأليه مريم أن ألقى الله إليها بكلمته. وكان أصحاب هذا الرأي من نصارى ذلك العهد يعتبرون مريم ثالث الثلاثة. الآب والإبن والروح القدس. ولم يكن أصحاب هذا القول بألوهية عيسى وأمه إلا طائفة من طوائف النصرانية الكثيرة المتفرّقة يومئذ شيعا وأحزابا.

[مجادلة النصارى للنبي]

كان نصارى شبه الجزيرة يجادلون محمدا على اختلاف نحلهم على أساس مذاهبهم. فكانوا يقولون إن المسيح هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وكان القائلون بألوهيته يحتجون بما سبق بيانه. ويحتج القائلون بأنه ولد الله بأنّه لم يكن له أب يعلم، وأنّه تكلّم في المهد صبيا مما لم يقع لأحد من بني آدم. ويحتج القائلون بأنه ثالث ثلاثة بأن الله يقول أمرنا وخلقنا وقضينا، ولو كان واحدا لقال أمرت وخلقت وقضيت. وكان محمد يستمع لهم جميعا ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو لم يكن في جدالهم يشتدّ في جدال المشركين وعبّاد الأصنام، بل كان يحاجّهم بالوحي من طريق المنطق ومن كتبهم وما جاء فيها. فالله تعالى يقول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) «٢» وقال تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ.

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) «٣» وقال جل شأنه: (وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ


(١) سورة آل عمران الآيات من ٤٥ الى ٤٩.
(٢) سورة المائدة آيتا ١٧، ١٨.
(٣) سورة المائدة آيتا ٧٢ و ٧٣.

<<  <   >  >>