ولسنا نضرب المثل لذلك بما كان حين محاربة تجارة الرقيق، وإن آمن الذين كانوا يقومون بهذه التجارة بأنها غير محرّمة. لا نضرب هذا المثل حتى لا يقال: إننا لا نستنكر هذه التجارة وإن كان الإسلام لم يدع إلى أكثر من محاربة ما يستنكر. لكن أوربا اليوم، أوربا صاحبة الحضارة الحاكمة تؤيدها أمريكا وتعزّزها قوّات الجنوب في آسيا والشرق الأقصى منها، قد حاربت البلشفية، وهي مستعدّة لمحاربتها أشدّ الحرب. ونحن في مصر مستعدّون للاشتراك مع الحضارة الحاكمة لمحاربة البلشفية. والبلشفية ليست مع ذلك إلا رأيا في الاقتصاد يحارب الرأي الذي تدين به الحضارة الحاكمة اليوم. أفتكون دعوة الإسلام إلى محاربة المشركين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه دعوة وحشيّة إلى التعصب وضدّ الحرية، وتكون الدعوة إلى محاربة البلشفية الهادمة للنظام الاجتماعي في الحضارة الحاكمة دعوة إلى الحرية في العقيدة والرأي وإلى احترامها.
[محاربة محلات العري]
ثم إن قوما رأوا في غير بلد من بلاد أوربا أن التهذيب النفسي يجب أن يتصل به التهذيب الجسمي، وأن ما تواضع الناس عليه من ستر الجسم كله أو بعض أعضائه أشد إثارة للمعاني الجنسية في النفس، وأشد لذلك إفسادا للخلق من أن يسير الناس وكلهم عريان. وبدأ أصحاب هذا الرأي ينفذونه وأقاموا محلّات العري في بعض المدن، وأقاموا أماكن يغشاها من شاء للتدرّب على هذا التهذيب الجسمي. لكن هذا الرأي ما بدأ ينتشر حتى رأى القائمون بالأمر في كثير من البلاد أن في انتشار مظاهره إفسادا للتهذيب الخلقي يضر بالجماعة؛ فحرموا «محلّات العري» وحاربوا القائمين بالرأي، ونهوا بالقانون عن إنشاء أماكن هذا التهذيب الجسميّ.
وما نشك في أن هذا الرأي، لو انتشر في أمة بأسرها لكان سببا لإعلان الحرب عليها من أمم أخرى على أنه مفسدة للحياة المعنوية في الإنسان، كما أثيرت حروب بسبب الرقيق، وكما تثار حروب أو ما يشبهها بسبب تجارة الرقيق الأبيض وبسبب الاتجار بالمخدّرات. لماذا ذلك كله؟ لأن حرّية الرأي على إطلاقها يمكن أن تحتمل ما بقيت حبيسة في حدود القول الذي لا يتصل منه بالجماعة ضرّ أو أذى. فإذا أوشك هذا الرأي أن يثير في الجماعة الإنسانية الفساد فقد وجبت محاربة هذه الثائرات ووجبت محاربة مظاهر الرأي جميعا، بل وجبت محاربة الرأي نفسه، وإن اختلفت مظاهر هذه الحرب بمقدار ما يترتب على هذه المظاهر من فساد في الجماعة يخشى منه على قوامها الخلقيّ أو الاجتماعي أو الاقتصادي.
[التشريع قمع لحرية الرأي له ما يسوغه]
هذه هي الحقيقة الاجتماعية المعترف بها والمقرّرة لدى الحضارة الحاكمة اليوم. ولو أردنا أن نستقصي مظاهر ذلك وآثاره في مختلف الشعوب لطال بنا البحث، وليس هاهنا موضعه. على أنك تستطيع أن تقول إن كل تشريع يراد به قمع أية حركة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إنما هو حرب للرأي الذي تصدر عنه هذه الحركة. وهذه الحرب تجد ما يسوّدها في مبلغ ما يصيب الجماعة الإنسانية من ضرر إذا نفّذت الآراء تشبّ الحرب عليها. فإذا أردنا أن نقدر دعوة الإسلام إلى مقاتلة الشرك وأهله وحربهم حتى يذعنوا، وهل هذه الحرب مسوّغة أو غير مسوّغة، وجب أن ننظر فيما تمثّله فكرة الشرك هذه وما تدعو إليه. فإن اتفقت الكلمة على فادح ضررها بالجماعة الإنسانية في مختلف عصورها كان لإعلان الإسلام الحرب عليها ما يسوّغه بل ما يوجبه.
والشرك الذي كان موجودا حين قيام محمد عليه السلام بالدعوة إلى دين الله الحق لم يكن يمثّل عبادة