من العروض إلا لينتفع به فيما يصلح له ما لم يكن سفيها أو معتوها لا تلزمه تصرفاته. فأما رؤوس الأموال فأكثر ما تقترض في خير الوجوه للتجارة. والتجارة عرضة دائما للكسب والخسارة. أما إجارة العقار أو المنقول لاستغلاله فقلّ أن تتعرض للخسارة إلا في أحوال شاذة لا يوضع التشريع العادي لها. فإذا حدثت هذه الأحوال الشاذّة تدخّل المشروع بين الملاك والمستأجرين على نحو ما حدث في بلاد العالم كله غير مرّة لرفع الحيف عن المستأجر، وإنقاذه من أن يأكل المالك ثمرة عمله. فأمّا تحديد فائدة النقد بسبعة أو تسعة في المائة أو بأكثر من ذلك أو أقل، فلا يغيّر من أن المقترض معرّض لخسارة رأس المال نفسه فضلا عن تعرضه لخسارة عمله. فإذا طولب مع ذلك بالفائدة كان هذا هو الإثم، وكان من أثر ذلك أن تقوم الشحناء بين الناس مقام الإخاء، وأن تحلّ البغضاء بينهم محلّ المحبة؛ وذلك مصدر الشقاء، ومبعث ما تعانيه الإنسانية في عصرنا الحاضر من أزمات.
وإذا كان هذا شأن الربا في أقل صوره ضررا، وكانت هذه بعض النتائج التي تترتب عليه، فكيف به في صوره الآخرى حين يكون المقرض أدنى إلى الوحش المفترس منه إلى الإنسان، أو حين يكون المقترض في حاجة إلى المال لسبب غير التثمير؟! فقد يكون في حاجة إلى المال لإقامة أوده ولإنفاقه في قوته وفي قوت عياله.
حينذاك يكون إنظاره إلى ميسرة، حتى يتهيأ له عمل يطمئن به إلى العيش ويستطيع أن يردّ منه ديونه، وبعض ما توجبه الإنسانية في أولى مراتبها، وذلك ما يفرضه القرآن الكريم. أليس الإقراض بالربا في مثل هذه الأحوال عملا وحشيّا، وجريمة كجريمة القتل سواء؟! وأشنع من هذه الجريمة التحايل من طريق الربا على سلب ثروات الضعفاء الذين لا يحسنون القيام على أموالهم. هذا التحايل لا يقل إثما عن السرقة الدنيئة، ويجب أن يعاقب من يقدم عليه عقاب السارق أو أشدّ منه.
[الربا والاستعمار]
والربا هو بعض ما جرّ على العالم مصائب الاستعمار، وما أدّى الاستعمار إليه من شقاء. فالاستعمار يبدأ أكثر أمره بطائفة من المرابين أفرادا أو شركات ينزلون بلدا من البلاد يقرضون أهله أموالهم، ثم يتغلغلون حتى يصلوا إلى وضع أيديهم على منابع الثروة فيه فإذا أفاق أهله وأرادوا الذود عن أنفسهم وأموالهم، استعدى هؤلاء الأجانب عليهم دولهم، فدخلت باسم حماية رعاياها، ثم تغلغلت هي كذلك، ثم وضعت يدها مستعمرة، وفرضت إرادتها حاكمة، وحرمت الناس حرّيتهم، واستولت على الكثير مما رزقهم الله في بلادهم. لذلك تضيع سعادتهم، ويخيم الشقاء على ربوعهم، ويمدّ البؤس يده إلى قلوبهم، ويرين الضلال على عقولهم، فتضعف أخلاقهم، ويتضعضع إيمانهم، وينزلون عن مرتبة الإنسانية الصحيحة إلى مكان من الضعة لا يرضاه لنفسه من يؤمن بالله، وبأن الله وحده هو الذي تجب له العبادة.
والاستعمار مصدر الحروب، ومصدر الشقاء الذي ينيخ بكلكله على الإنسانية كلها في هذا العصر الحاضر. وما دام الربا، وما دام الاستعمار، فلا أمل في العود إلى عهد إخاء ومحبة بين الناس؛ ولا أمل في العود إلى مثل هذا العهد إلا أن تقوم الحضارة على الأساس الذي جاء به الإسلام، ونزل به الوحي في القرآن.
[الاشتراكية الإسلامية]
وفي القرآن اشتراكية لم تبحث بعد. وهي اشتراكية لا تقوم على أساس من حرب رأس المال ونضال الطوائف، شأن الاشتراكية اليوم في الحضارة الغربية، وإنما تقوم على أساس خلقي سام يكفل إخاء الطوائف وتكافلها وتعاونها على البرّ والتقوى لا على الإثم والعدوان. ومن اليسير أن يرى الإنسان قيام هذه الاشتراكية