إلى الدين الجديد، وبعد أن أصبح الحجاز كله ومعه تهامة ونجد منضويا تحت راية الإسلام، وبعد أن أعلن كثير من قبائل الجنوب في شبه الجزيرة الإذعان لمحمد والانضواء إلى دينه، يجلو الحكمة التاريخية في نزول الآيات التي تنتظم أساس الدولة المعنويّ في هذا الحين. فالدولة، لتكون قوية، يجب أن تكون لها عقيدة معنوية عامة يؤمن بها أهلوها ويدافعون جميعا عنها بكل ما أوتوا من عتاد وقوّة. وأيّة عقيدة أعظم من الإيمان بالله وحده لا شريك له! أيّة عقيدة أكبر سلطانا على النفس من أن يحس الإنسان نفسه تتصل بالوجود في أسمى مظاهره، لا سلطان عليه لغير الله ولا رقيب غير الله على ضميره! فإذا وجد الذين يقومون في وجه هذه العقيدة العامّة التي يجب أن تكون أساس الدولة، فأولئك هم الفاسقون، وأولئك هم نواة الثورة الأهلية والفتنة الماحقة، وأولئك يجب لذلك ألا يكون لهم عهد، ويجب أن تقاتلهم الدولة. فإن كانوا ثائرين على العقيدة العامّة ثورة جامحة، وجب قتالهم حتى يذعنوا. وإن كانت ثورتهم على العقيدة العامّة غير جامحة، كما هو شأن أهل الكتاب، وجب أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
[المسرفون في أحكامهم على الإسلام والرسول]
النظر إلى المسألة من الجهة التاريخية والجهة الاجتماعية يهديناا إلى هذا التقدير لمغزى الآيات التي تلاها القارئ ههنا من سورة التوبة، وهو يهدي إلى هذا التقدير كل منصف نزيه القصد. لكن الذين أسرفوا في أحكامهم على الإسلام وعلى رسوله يذرون هذا النظر على نبأ ويعرضون لهذه الآيات القوية غاية القوة من سورة التوبة على أنها دعوة إلى التعصّب لا تتفق مع ما ترضاه الحضارة الفاضلة من تسامح، دعوة إلى قتال المشركين وقتلهم حيث ثقفهم المؤمنون في غير رفق ولا هوادة، دعوة إلى إقامة الحكم على أساس البطش والجبروت. هذا كلام تقرؤه في كثير من كتب المستشرقين. وهو كلام تهوي إليه الأذهان التي لم تنضج فيها ملكة النقد الاجتماعي والتاريخي حتى من أبناء المسلمين وهو كلام لا يتّفق مع الحقيقة التاريخية ولا يتفق مع الحقيقة الاجتماعية في شيء. وهو لذلك يؤدي بأصحابه إلى تفسيرهم ما أوردنا من سورة التوبة، وما جاء من مشابهه في مواضع كثيرة من القرآن، تفسيرا يأباه منطق الحوادث في سيرة الرسول تمام الإباء، وتأباه حياة النبيّ العظيم في تسلسلها من يوم بعثه الله للدعوة إلى دين الحق إلى يوم اصطفاه الله إليه.
[حرية الرأي والحضارة الغربية]
ويجمل بنا لبيان ذلك أن نسأل عن الأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم، ثم نقيس به هذا الأساس المعنوي الذي دعا محمد إليه. فالأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم هو حريّة الرأي حريّة لا حدّ لها، ولا حدّ للتعبير عنها إلا بالقانون. وحريّة الرأي هذه هي لذلك عقيدة يدافع الناس عنها ويضحّون في سبيلها ويجاهدون لتحقيقها ويحاربون من أجلها، ويعتبرون ذلك كله آية من آيات المجد التي يفاخرون بها الأجيال ويتباهون بها على ما سبقهم من العصور. ومن أجل ذلك يقول المستشرقون الذين أشرنا إليهم: إن دعوة الإسلام لمقاتلة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر دعوة إلى التعصّب تتنافى وهذه الحرية. وهذه مغالطة مفضوحة إذا عرفت أن قيمة الرأي الدعوة له والعمل به. والإسلام لم يدع إلى مناوأة المشركين من أهل الجزيرة، إذا هم أذعنوا ولم يدعوا إلى شركهم ولم يعلموا به ويقيموا عبادته. والحضارة الحاكمة اليوم تحارب الآراء التي تناقض مواضع العقيدة منها بأشدّ مما كان يحارب المسلمون المشركين، وتفرض على من يعتبر كتابيّا بالنسبة لهذه الحضارة الحاكمة ما هو شرّ من الجزية ألف مرة.