كان لجوار اليهود والعرب بيثرب، فيما خلا هذا النزاع على السيادة والسلطان أثر آخر أعمق عند الأوس والخزرج مما كان عند سائر أهل جزيرة العرب؛ ذلك هو الأثر الروحي. فقد كان اليهود، وهم أهل كتاب ودعاة وحدانية، يعيبون على جيرانهم الوثنيين اتخاذهم الأوثان زلفى إلى الله، وينذرونهم بعث نبي يقضي عليهم ويشايع اليهود. ولم تصل هذه الدعوة إلى تهويد العرب لسببين أحدهما أن ما كان بين النصرانية واليهودية من حرب جعل يهود يثرب لا يطمعون في أكثر من السلامة التي تهيئ لهم سعة التجارة. والآخر أن اليهود يحسبون أنفسهم شعب الله المختار، ولا يرضون أن تكون لشعب غيرهم هذه المكانة، وهم لذلك لا يدعون لدينهم ولا يرضونه يخرج من بني إسرائيل. وعلى الرغم من قيام هذين السببين هيأ اتصال الجوار والتجارة، بين اليهود والعرب أوس يثرب وخزرجها ليكونوا أكثر استماعا للحديث في الشئون الروحية وفي سائر شئون الدين من غيرهم من العرب. يدلك على ذلك أن العرب لم تستجب لدعوة محمد الروحية مثلما استجاب أهل يثرب.
[سويد بن الصامت]
كان سويد بن الصّامت من كبار أشراف يثرب، حتى كان قومه يسمونه الكامل، لجلده وشعره وشرفه ونسبه. وفي هذه الفترة التي نتحدث عنها قدم سويد مكة حاجّا، فتصدى له محمد فدعاه إلى الله وإلى الإسلام. فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي! قال محمد: وما الذي معك؟ قال حكمة لقمان. فطلب إليه محمد أن يعرضها عليه فعرضها؛ فقال له محمد: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل؛ هو قرآن أنزله الله عليّ هدى ونورا. وتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام. فطاب سويد نفسا بما سمع وقال: هذا حسن. وانصرف يفكر فيه. وإنّ قوما ليقولون حين قتلته الخزرج: إنه مات مسلما.
[إياس بن معاذ]
وليس سويد بن الصامت هو المثل الوحيد الذي يدل على أثر تجاوز اليهود والعرب بيثرب من الناحية الروحية. فقد كان بين الأوس والخزرج من العداوة التي بثّ اليهود ما علمت، وكان كل منهم يلتمس الحلف من قبائل العرب ليقاتل الآخر. وكان من ذلك أن قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج. وسمع بهم محمد، فأتاهم فجلس إليهم ودعاهم إلى الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم! هذا والله خير مما جئتم فيه. وعاد القوم إلى يثرب لم يسلم منهم غير إياس، لأنهم كانوا في شغل بالتماس الحلف استعدادا لوقعة بعاث التي اصطلى الأوس والخزرج جميعا بنارها بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى مكة. لكن كلام محمد عليه السلام ترك في نفوسهم بعد هذه الوقعة من الأثر ما دعا الأوس والخزرج جميعا ليلتمسوا في محمد نبيّا ورسولا وحليفا وإماما.
كانت وقعة بعاث بعد قليل من عود أبي الحيسر ومن معه إلى يثرب، واقتتل فيها الأوس والخزرج قتالا شديدا أملته عداوة متأصّلة، حتى لكان كل قوم يتساءلون إذا هم انتصروا: أيبقون على أصحابهم، أم يستأصلونهم ويجهزون عليهم. وكان أبو أسيد حضير الكتائب على رأس الأوس، وكان في نفسه من الحقد على الخزرج أشدّه. فلما بدأ القتال دارت على الأوس الدائرة، فولّوّا فرارا نحو نجد، فعيّرتهم الخزرج. فلما سمع حضير تعييرهم طعن بسنان رمحه فخذه ونزل وصاح: واعقراه! والله لا أريم حتى أقتل! فإن شئتم يا معشر