القوّة القدسيّة والإرادة السامية فوق الحياة وما في الحياة. وقام محمد وقد خنقته العبرة ممّا فاجأه به عمه وإن لم تدر بنفسه خلجة ريب في السبيل الذي يسلك. ولم تك إلا لحظة اهتز فيها وجود أبي طالب متحيرا بين غضبة قومه وموقف ابن أخيه حتى نادى محمدا أن أقبل فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشيء تكرهه أبدا! وأفضى أبو طالب إلى بني هاشم وبني المطلب بقول ابن أخيه وبموقفه، وحديثه عنه يتدفّق بروعة ما شهد وجلال ما شعر به، وطلب إليهم أن يمنعوا محمدا من قريش؛ فاستجابوا له جميعا إلا أبا لهب فإنه صارحهم بالعداوة وانضمّ إلى خصومهم عليهم. وهم لا ريب قد منعوه متأثرين بالعصبية القوميّة وبالخصومة القديمة بين بني هاشم وبني أمية. لكنّ العصبية لم تكن وحدها التي حفزتهم إلى الوقوف هذا الموقف من قريش كلها في أمر له من جلال الخطر ما للدعوة إلى نبذ دينهم والخروج على عقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم؛ بل كان موقف محمد منهم وشدّة إيمانه بينهم ودعوته الناس بالحسنى إلى عبادة الواحد الأحد، وما كان شائعا يومئذ بين قبائل العرب جميعا من أن لله دينا غير دينهم الذي هم عليه ممّا جعلهم يرون حقّا لابن أخيهم محمد أن يعالن الناس برأيه كما كان يفعل أميّة بن أبي الصّلت وورقة بن نوفل وغيرهما. فإن يكن محمد على الحق- وذلك ما لا ثقة لهم به- فسيظهر الحق من بعد وسيكون لهم من مجده نصيب، وإلّا يكن على الحق فسينصرف الناس عنه كما انصرفوا من قبل عن غيره، ثم لن يكون لدعوته من الأثر أن يخرجوا على تقاليدهم وأن يسلموه لخصومه كي يقتلوه.
اعتصم محمد بقومه من أذى قريش، كما اعتصم بخديجة في داره من همّ نفسه. فقد كانت له بصدق إيمانهم وعظيم حبّها، وزير صدق تسرّى عنه كل همّه، وتقوّى فيه كل عارض ضعف من أثر أذى خصومه وإمعانهم في مناوأته وإيصال الأذى لأتباعه. وفي الحقّ أن قريشا لم تنم ولم تعد لما عرفت من قبل من دعة النعيم؛ بل وثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، حتى ألقى أحدهم عبده الحبشيّ بلالا على الرمل تحت الشمس المحرقة ووضع حجرا على صدره وتركه ليموت، لا لشيء إلا أنه أصرّ على الإسلام، ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرّر كلمة:«أحد أحد» محتملا هذا العذاب في سبيل دينه. وقد رآه أبو بكر يوما يعاني هذا العذاب فاشتراه وأعتقه. واشترى أبو بكر كثيرا من الموالي الذين كانوا يعذبون ومن بينهم جارية لعمر بن الخطاب اشتراها منه قبل إسلامه. وعذّبت امرأة حتى ماتت لأنها لم ترض أن ترجع عن الإسلام إلى دين آبائها. وكان المسلمون من غير الموالي يضربون وتوجّه إليهم أشدّ صور المهانة. ولم يسلم محمد، مع منع بني هاشم وبني المطلب له، من هذه الإساآت. كانت أمّ جميل زوج أبي لهب تلقى النجس أمام بيته فيكتفي محمد بأن يزيله. وكان أبو جهل يلقي عليه أثناء صلواته رحم شاة مذبوحة ضحية للأصنام فيحتمل الأذى ويذهب إلى ابنته فاطمة لتعيد إليه نظافته وطهارته. هذا إلى جانب ما كان المسلمون يسمعون من لغو القول وهجر الكلام حيثما ذهبوا. واستمرّ الأمر على ذلك طويلا، فلم يزدادوا إلا حرصا على دينهم وابتهاجا بالأذى والتضحية في سبيل عقيدتهم وإيمانهم.
[صبر المسلمين على الأذى]
هذه الفترة من فترات حياة محمد عليه السلام هي من أشدّ ما عرف التاريخ الإنسانيّ روعة في العصور جميعا. فما كان محمد والذين اتّبعوه طلّاب مال ولا جاه ولا حكم أو سلطان؛ إنما كانوا طلّاب حق وإيمان به.
وكان محمد طالب هدى للذين يصيبونه بالأذى وتحرير لهم من ربقة الوثنية الوضيعة التي تنحدر بالنفس الإنسانية إلى خزي المذلّة والهوان في سبيل هذه الغاية الروحيّة السامية، لا في سبيل شيء آخر، كان الأذى يصله، وكان الشعراء يسبونه، وكانت قريش تأتمر به حتى حاول رجل قتله عند الكعبة. وكان منزله يرجم، وكان