والتي تعتبر لذلك عارا وشنارا على الإنسانية ومظهرا من مظاهر وحشيتها وجبنها؛ هذه الغازات تصلح في السلم لأغراض نافعة أعظم النفع، منقذة للإنسانية من كثير من الأمراض المعدية وأهوالها. فمن هذه الغازات ما تنقى به المياه من المكروبات الضارّة كغاز الكلور، ومنها ما يصلح في حياة السفن إذ يقتل بعضه الجرذان فيها، ويدلّ بعضه على مواطن الغازات الآخرى التي تعرّض حياة الملّاحين للخطر.
وقديما خيّل إلى الناس أن من الحشرات والطيور والحيوان ما لا فائدة البتة من وجوده، ثم تبين لهم بعد البحث والدرس ما لهذه الحشرات والطيور والحيوان من فائدة للإنسان، حتى لقد صدرت في ممالك مختلفة قوانين تحمي هذه الخلائق من القتل أو الصيد تقديرا لخيرها للإنسانية. والذين درسوا هذه الخلائق قد لاحظوا أنها أشدّ حرصا على مسالمة الحياة المحيطة بها في حدود الاحتفاظ بوجودها كي تقوم بقسطها من الخير الذي فطرت على القيام به، وأنها لا تؤذي إلا دفاعا عن نفسها حين يهاجمها مهاجم أو يغريها مغر بالأذى.
[أعمال بني الإنسانية]
وأعمالنا نحن بني الإنسان ليست خيرا كذلك لذاتها ولا شرّا لذاتها، بل للغاية التي توجّه إليها والأثر الذي يترتب عليها. أليس القتل إثما محرّما! لكن الله مع ذلك إذ يحرّم القتل يقول:(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) . والقتل بالحق لا إثم فيه. (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) . والجلّاد الذي يقتل مجرما حكم عليه بالقتل، والرجل الذي يقتل نفسا دفاعا عن نفسه، والجندي الذي يقتل دفاعا عن وطنه، والمؤمن الذي يقتل حتى لا يفتنه أحد عن دينه، هؤلاء جميعا لا يرتكبون إثما ولا معصية حين يقتلون.
هم إنما يؤدّون لله حقّا فرضه الله عليهم ولهم عنه جزاء المحسنين. وما يقال في القتل يقال كذلك في غيره من الأعمال المتداولة بين الخير والشر. فالعالم الذي يكتشف بعض المدمرات للدفاع عن وطنه أو لما تفيد هذه المدمرات العالم حين السلم، وصانع الأسلحة وكل عامل وكل إنسان على الأرض، إنما يعمل الخير أو يرتكب المعصية حسب الوجهة التي يولي وجهه شطرها والأثر الذي يترتب على عمله.
[باب التوبة]
هذه إرادة الله وهي سنّته في الكون، ولمّا كان الله قد خلق الناس بعضهم فوق بعض درجات في الاستعداد لإدراك هذه السنّة، فجعل منهم من يحصرون كل نشاطهم في البقعة التي ينشأون فيها وهي تثميرها والقيام عليها، ووهب آخرين موهبة الصناعة، وجعل لغير هؤلاء وأولئك من المواهب في الأعمال والفنون والعلوم ما لا يتيسّر لهم معه الاهتداء إلى هذه السنّة، ولمّا كانت معرفتها أساسية للإنسان كي يهتدي في الحياة، فقد وهب لأفراد موهبة النبوّة واصطفى آخرين لرسالاته ليبينوا لنا الخير والشر، ووهب لآخرين مواهب العلم والمنطق ليكونوا ورثة الأنبياء فيهدونا إلى ما يجب علينا أن نعمله وما يجب علينا أن نتجنبه، وركّب فينا قوى العقل والعاطفة لندرك ما يلقى إلينا من التعاليم، فنروض أنفسنا برياضتها كي نحسن التوجه في الحياة إلى الخير وكي نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. فإذا التبس الأمر مع ذلك على بعض الناس فارتكبوا المعصية فجزتهم الجماعة عن معصيتهم، احتفاظا بكيانها أن تجني هذه المعصية عليه، لم يكن ذلك سدّا بينهم وبين التوبة والأوبة إلى الحق. فمن ارتكب الخطيئة أو الإثم بجهالة ثم حاسب نفسه وغيّر ما بها وعاد إلى الله طائعا منيبا، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وتاب عليه. ومن ثم كان للخاطئ والآثم أن يستفيد من عبر الأيام وأن يطهّر قلبه، وأن يرجع إلى طريق الحق تائبا فيقبل الله منه، إنه هو التوّاب الرحيم.
هذا التصوير للحياة. يوفّق ما بين مذاهب فلسفية شتى يحسب أصحابها أن لا سبيل إلى التوفيق بينهما.