رسالة بقوّة المسلمين وبأس جيوشهم، حتى يخرجوا إلى رسول الله فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة.
وكانت قريش قد بدأت، منذ نزل المسلمون مرّ الظهران، تشعر بأن خطرا يقترب منها؛ فأرسلت أبا سفيان بن حرب، وبديل بن ورقاء، وحكيم بن حزام قريب خديجة، يتنسطون الأخبار، ويستطلعون مبلغ الخطر الذي تحس قلوبها. وإن العباس ليسير على بغلة النبيّ البيضاء إذ سمع حديثا بين أبي سفيان بن حرب وبديل بن ورقاء كذلك يجري:
أبو سفيان- ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ ولا عسكرا.
بديل- هذه والله خزاعة حمّشتها الحرب.
أبو سفيان- خزاعة أقل وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
[أبو سفيان في حضرة الرسول]
وعرف العبّاس صوت أبي سفيان، فناداه بكنيته قائلا: أبا حنظلة! وأجاب أبو سفيان بدوره: أبا الفضل. قال العبّاس: ويحك يا أبا سفيان؟ هذا رسول الله في الناس. واصباح قريش إذا دخل مكة عنوة! قال أبو سفيان: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ فأركبه العباس في عجز البغلة ورد صاحبيه إلى مكة وسار به.
والناس إذا رأوا البغلة عرفوها وتركوها تمرّ بمن عليها بين عشرة آلاف أوقدوا نيرانهم لتلقي الرعب في قلب مكة وأهلها. فلمّا مرّت بنار عمر بن الخطاب ورآها عرف أبا سفيان وأدرك أن العباس يريد أن يجيره، فأسرع إلى خيمة النبيّ وطلب إليه أن يضرب عنقه. قال العباس: إني يا رسول الله قد أجرته. إزاء هذا الموقف في تلك الساعة من الليل، وبعد مناقشة لا تخلوا من حدّة بين العباس وعمر قال محمد: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به. فلما كان الصباح، وجيء بأبي سفيان في حضرة النبيّ وبمسمع من كبراء المهاجرين والأنصار، جرى الحوار الآتي:
النبيّ- ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟!
أبو سفيان- بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! والله لقد ظننت لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد.
النبيّ- ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟!
أبو سفيان- بأبي وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أمّا والله هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا.
فتدخل العباس موجها القول إلى أبي سفيان أن يسلم ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقه. ولم يجد أبو سفيان أمام هذا إلا أن يسلم. فتوجّه العبّاس بالقول إلى النبيّ عليه السلام: يا رسول الله؛ إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا. قال رسول الله: «نعم! من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن» .
هذه الوقائع وارد عليها اتفاق المؤرخين وكتاب السيرة جميعا إلا أن بعضهم يسائل: أهي قد حدثت كلها بمحض المصادفة؟ فخروج العباس إلى النبيّ كان قصده منه أن يذهب إلى المدينة فإذا هو يلقي جيوش المسلمين بالجحفة، وخروج بديل بن ورقاء مع أبي سفيان بن حرب كان لمحض الاستطلاع، مع أن بديلا ذهب قبل ذلك إلى المدينة وقصّ على النبيّ ما لقيت خزاعة وعرف من النبيّ أنه ناصرها، وخروج أبي سفيان كان جهلا منه بأن محمدا قد سار لغزو مكة! أم أن شيئا من الاتّفاق، قليلا أو كثيرا، كان قد حدث قبل ذلك، وأن هذا